المثقف العربي بين منطق النضال ومنطق المعرفة

نشر في 21-04-2014
آخر تحديث 21-04-2014 | 00:01
 د. عبدالحميد الأنصاري ثورات الربيع العربي أسقطت أنظمة وأطاحت بحكام وحكومات لكنها لم تغير عقليات وممارسات وثقافات، رفعت الغطاء السياسي عن موروثات حاكمة للذهنية الجمعية العربية بتناقضاتها الطائفية والدينية والقبلية والإثنية، وكان من إفرازاتها: اهتزاز وضعية المرأة في المجتمع، وتنامي مخاوف الأقليات الدينية على مصيرها، وتزلزل دور المثقف العربي في مجتمعه.  كانت هذه الثورات بموجاتها المتتالية امتحاناً كبيراً للمثقف العربي الذي فشل في مواجهة التحدي، فسقط في فخ الشعبوية– طبقاً لفهد الشقيران– وتخلى عن مهنته الأساسية في إنتاج المعرفة والفكر والتفسير والتحليل، ليتحول إلى ناشط أيديولوجي أو مناضل سياسي أو داعية طائفي أو مبشر حداثي، كانت التغييرات بمثابة تحديات للمثقف الذي وجد نفسه في حيرة بين وظيفته المعرفية وواجبه الوطني.

 ظاهرة تحول المثقفين العرب عن وظيفتهم الأساسية إلى وظيفة غيرهم من السياسيين والدعاة والمناضلين، تناولها المفكر اللبناني المعروف علي حرب في كتاب قيم "أصنام النظرية وأطياف الحرية" شخّص فيها هذه الظاهرة في نقده لنموذجين فكريين:

1- نموذج عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورد يو، الذي تحول إلى مناضل يساري.

 2- نموذج عالم اللسانيات الأميركي نعوم تشومسكي، الذي تحول إلى مناضل ضد الإمبريالية.

 يفرق علي حرب بين "منطق النضال" و"منطق المعرفة"، فالأول يتطلع إلى ما ينبغي أن يكون، والثاني ينظر في الحدث ويحلله، منطق النضال يصادر إرادة الفهم كونه ينفي الحدث أو يتعامى عنه في حين أن منطق المعرفة رهانه، بيان كيف تحدث الأشياء وتتشكل الهويات.

 ولكن هل معنى ذلك ألا يهتم المثقف "بورد ديو" بالسياسة والنضال؟ يجيب حرب، لا ليس ذلك المقصود "ولكن لكل حقل مقتضياته ورهاناته، ورهانات النضال تختلف عن رهانات الإنتاج العلمي والمعرفي، فعامل الاجتماع يسهم في تغيير الواقع الاجتماعي، ليس بنضالاته الميدانية بل بما ينتجه من المقولات والأدوات المفهومية التي يتغير معها وعي الفاعلين الاجتماعيين بواقعهم، في حين أن السياسي يسهم في التغيير بما يجترحه من النظم والأساليب والإجراءات".

 أما عن تشومسكي، فيرى حرب أنه قد أفنى عمره يصارع سياسة بلده ويعمل على فضحها، لكن النتيجة بعد عقود من المناضلة، اجتياح الولايات المتحدة للعالم، ما دلالة ذلك؟ في ذلك أبلغ شاهد على أن المثقف الرسولي صاحب الدور النبوي لا يحسن سوى خسارة قضاياه، ولا يعني ذلك تخلي المثقفين عن مهامهم كفاعلين سياسيين، بقدر ما في الإقرار بمأزق الأفكار التي يوظفونها دفاعاً عن حقوق الإنسان في مواجهة المتغيرات العالمية، إذ لا يعقل أن يتغير العالم دون أن تتغير شبكات الفهم والتأويل.

 ينتهي حرب إلى استخلاص نتيجة معرفية هامة، هي: أن أكثر العوائق التي عرقلت المشاريع الفكرية للعرب، طغيان صور النبي والداعية المبشر على عقول المشتغلين في فروع العلم وميادين البحث، وتصور أن تخلي المثقف عن رسالته المعرفية لتقمص دور المناضل القيادي للجماهير، يشبه ما يقوم به "الدعاة الجدد" في الفضائيات ومواقع التواصل، هؤلاء أرسلوا ليتخصصوا في فروع العلم التي تكون حاجة مجتمعاتهم لها ماسة، فإذا بهم يعودون دعاة مبشرين منذرين!

العلاقة بين المثقف والسياسة أكثر الأمور جدلاً، تقع بين حدين متعارضين– طبقاً للمفكر المغربي عبدالإله بلقزيز في مقالة قيمة: مهمة المثقفين أن يفسروا العالم لا أن يغيروه– بين حد الإقبال الكامل عليها، وحد الإعراض التام عنها، فمثقف "السلطة" ومثقف "الحزب" ممثلان رسميان للحد الأول– الإقبال على السياسة– أما المثقف "الأكاديمي" فيمثل الحد الثاني– الإعراض عن السياسة– وثمة تلوينات وسطية.

 إذ قد يميل مثقف السلطة أو الحزب أو الجماهير، إلى أن يحيط صنعته بتقاليد أكاديمية حتى يبدو باحثاً في عيون مخاطبيه من أولياء النعمة أو المحازبين أو الأنصار، وقد يجنح المثقف الأكاديمي لاستثمار بضاعته في مناقصة سياسية، يبدو بها ملتزماً بالشأن العام في نظر الجمهور، يحاول الأول أن يرفع عنه تهمة الشعبوية التي يقذفه بها الأكاديمي، ويجرب الثاني أن يرد على تهمة الانعزالية، ليثبت المثقف الملتزم أنه لا يقل عنه التزاماً، لكن كلا منهما يتقمص دوراً كاريكاتورياً لا يغير من المعادلة شيئاً!

 إذاً ما العمل؟ هل يمكن للمثقف أن يؤدي وظيفة معرفية تفيد منها السياسة دون أن يكون ملتزماً موقفاً حزبياً أو سلطوياً، ودون أن يرسم لنفسه سلفاً وظيفة إبعاد المعرفة عن السياسة؟! هذا تساؤل هام يطرحه بلقزيز ليجيب عنه فيما يأتي:

1- إن المثقفين غالباً ما يعرضون عن أداء دورهم الطبيعي ليجندوا أقلامهم لخدمة السلطان السياسي أو الاجتماعي أو الديني، يفعلون ذلك بأكثر من وازع: وازع المصلحة والربح الناجمين عن تقديم الخبرة أو بيعهما لمن يستطيع الدفع، أو وازع الإيمان والالتزام بالحزب أو النظام أو المؤسسة الدينية أو الجماعة أو الشعب.

2- من نافل القول، أن خدمات المثقف للسياسة ليست معرفية أو ثقافية في طبيعتها، حتى إن خالها كذلك، بل هي: خدمات سياسية بلا زيادة ولا نقصان، يؤديها بوصفه مناضلاً في المقام الأول وليس بوصفه مثقفاً، ولا نتردد في وصف هذه العلاقة بأنها: علاقة العبد المثقف، بالسيد "السياسة" وهي أسوأ علاقة ممكنة بينهما.

3- يمكن للمثقف أن يكون مناضلاً، وهذا حقه، بل هو واجبه الوطني، إذا كان التزامه السياسي بالتحرر والديمقراطية والعدالة والتقدم غير أن وظيفته ليست التبشير باختياراته السياسية والأيديولوجية وعقد مهرجانات خطابية، من ذلك نعرف المثقف بوصفه منتجاً للمعرفة، ونعتقد أن وظيفته "إنتاج المعرفة" هي وظيفته الأصلية، وما عداها هو في عداد ما يضيفه إلى حرفته، تماماً مثل الطبيب أو المهندس الذي يستطيع أن يضيف إلى حرفته العلمية صفة أخرى إضافية من قبيل الالتزام النضالي الحزبي.

4- ليست وظيفة "إنتاج المعرفة" انعزالاً أو انسحاباً بل هي نفسها التزام بالعقل والإبداع والنضال ضد الجهل والخرافة والاستبداد وقمع حرية التعبير وخدمة الوطن، من خلال تحقيق "تراكم معرفي" هو اليوم الشرط التحتي لكسب معركة التقدم.

5- لا شيء يمنع المثقف من الالتزام والمشاركة في الشأن العام باعتباره مواطناً له حقوق سياسية، وإنساناً يؤمن بمبادئ ويتطلع إلى تحقيق أهداف سياسية، ولكن آن الأوان ليعي المثقفون أنهم أهل لممارسة دور كبير في مجتمعاتهم بعيداً عن أوهام الالتزام غير المعرفي، وأن لهم أن يتحرروا من وهم صناعة التاريخ من بوابة السياسة لكي يصبحوا مشاركين متواضغين في صناعته من خلال المعرفة... إن مهمة المثقفين اليوم ليست تغيير العالم، بل فقط – وفقط – تفسيره.

* كاتب قطري

back to top