في الدفاع عن الحماقة

نشر في 20-04-2014 | 00:01
آخر تحديث 20-04-2014 | 00:01
 ديفيد روبيك تخيل أن مجموعة من مؤيدي قضية ما حاولوا تنبيه عامة الناس إلى خطر يستشعرونه، ولكن الأدلة أظهرت أن ذلك الخطر لم يكن حقيقياً، وأن هذه المجموعة تسببت بنشر مخاوفها في دفع بعض الناس إلى التصرف على نحو يجعل جمهور الناس على نطاق أوسع- وأنت ذاتك- عُرضة للخطر. ماذا كنت لتفعل؟ وماذا ينبغي للحكومة أن تفعل؟

أجابت حكومة أستراليا عن هذا السؤال بطريقة حازمة، فقد ألغت وضع الإعفاء الضريبي الخيري الذي كانت تتمتع به جماعة مناهضة للتطعيم، استناداً إلى حجة مفادها بأن المعلومات المضللة المثيرة للمخاوف بشأن مخاطر اللقاحات تهدد الصحة العامة، خصوصاً صحة الأطفال.

كما ألزمت الحكومة المجموعة بتغيير اسمها، من شبكة التطعيم الأسترالية إلى الشبكة الأسترالية للمشككين في التطعيم، بهدف جعل منظور أنصارها واضحاً، وقد صرح ستيوارت آيريس وزير التجارة العادلة في نيو ساوث ويلز: "سوف نستمر في ضمان تقديمهم لأنفسهم باعتبارهم جماعة مناهضة للتطعيم. ونحن حريصون على منعهم من ترويج أي معلومات مضللة".

هذه بطبيعة الحال منطقة خطرة. فبرغم وضوح الأدلة التي تؤكد أن التطعيم لا يسبب الأضرار التي يدَّعي معارضوه بعناد أنه يسببها، فإن أي محاولة تقوم بها أي حكومة لتقييد حرية التعبير تبعث على القلق. ولا ينبغي لأي مجتمع حر أن يسمح لحكومته بأن تقرر أي جماعة دعوية بوسعها أن تقول ماذا، استناداً إلى ما يعتقده أنصارها.

ولكن في هذه الحالة، كان تصرف المسؤولين الأستراليين مناسباً تماماً، وخدمة عامة ضرورية وأساسية: حماية الصحة العامة وسلامة المواطنين استناداً إلى أدلة طبية قوية ومتماسكة.

فالأدلة تدحض بشكل قاطع ادعاءات مناهضي التطعيم بأن التطعيم في مرحلة الطفولة يسبب مرض التوحد وغير ذلك من الأضرار العصبية النمائية الطويلة الأجل. ورغم هذا فإن مجموعة صغيرة ولكنها صاخبة من مثيري المخاوف الذين يخدمون مصالح ذاتية يواصلون نشر حقائق مشوهة تثير الرعب بين الناس وأكاذيب صريحة تزعم أن أضرار اللقاحات أكثر من نفعها.

ونتيجة لهذا فإن معدلات التطعيم آخذة في الانخفاض في بعض المجتمعات، خصوصاً تلك التي تتسم بتركيزات عالية من الليبراليين المناهضين للحكومة أو أنصار حماية البيئة الذين ينادون بالعودة إلى الطبيعة. ونتيجة لهذا فقد انخفضت في بعض المناطق معدلات التحصين الجمعي في مجتمعات بأكملها من أمراض مثل الحصبة والسعال الديكي إلى مستويات أدنى من تلك اللازمة لمنع هذه الأمراض من الانتشار إلى عموم السكان. فالبالغون الذين تبدد تأثير اللقاح في أجسامهم أو لم يعد فعّالا بنسبة 100 في المئة يصابون بالمرض على نحو متزايد. والأطفال حديثو الولادة أيضاً والأصغر من السن المناسبة للتطعيم ضد السعال الديكي يصيبهم المرض، حتى أن بعضهم يسعل بشدة حتى يختنق ويموت.

وعلى هذا فإن قرار الحكومة الأسترالية مبرر بكل وضوح. ذلك أن حمايتنا من تهديدات لا يمكننا حماية أنفسنا منها كأفراد تشكل على أي حال جزءاً أساسياً من الأغراض التي نمكن الحكومات من أجل القيام بها. وعندما تكون الأدلة بهذا القدر من الوضوح- والعواقب بهذه الجسامة- كما هي الحال مع اللقاحات، فإن الحكومة لديها سلطة راسخة- بل التزام في واقع الأمر- تسمح لها بالتدخل باسم ضمان السلامة العامة.

ولكن التطعيم ليس أكثر من مثال واحد للكيفية التي قد تتسبب بها الجماعات الدعوية أحياناً في تعريض عامة الناس للخطر من خلال رفض الأدلة العلمية. فالإنكار الأيديولوجي لظاهرة الاحتباس الحراري العالمي الناجم عن أنشطة بشرية يعوق الجهود الرامية إلى تخفيف الانبعاثات المغيرة للمناخ أو الاستعداد لمواجهة العواقب المتزايدة الوضوح- والخطورة- التي يفرضها هذا التهديد الهائل. وتتسبب معارضة أولئك المتحررين الليبراليين من أي التزام لأي شكل من أشكال التنظيم لملكية الأسلحة النارية، خصوصاً في الولايات المتحدة، في زيادة صعوبة إبقاء الأسلحة المميتة بعيداً عن أيدي أولئك الذين يشكلون خطراً على المجتمع.

وتشكل مقاومة التكنولوجيا الحيوية، خصوصاً الأطعمة المعدلة وراثياً، مثالاً آخر. فبعض تطبيقات هذه التكنولوجيا قد تجلب منافع وفوائد هائلة على صحة الإنسان، ولكن المجتمع لا يتمتع بمثل هذه المنافع- فيعاني الناس ويموتون نتيجة لهذا- لأن المعارضين يرفضون تطبيقات التعديل الوراثي، وذلك بسبب كراهيتهم العميقة للشركات الكبرى، أو الزراعة التجارية، أو التكنولوجيا الحديثة عموماً.

ولنتأمل هنا قضية "الأرز الذهبي"، وهو هجين معدل وراثياً يحمل جيناً من الجزر ينتج فيتامين (أ). وقد توصلت دراسة حديثة إلى أنه في الهند وحدها، لو نال الأرز الذهبي الموافقة عندما كان جاهزاً من الناحية الفنية في عام 2002، فإنه كان لينقذ 1.4 مليوناً من سنوات الحياة المهدرة بسبب العجز بين هؤلاء الذين عانوا بدلاً من ذلك العمى والوفاة نتيجة لنقص فيتامين (أ).

لقد حان الوقت للتصدي لهؤلاء الدعاة عندما تنكر وجهات نظرهم المدفوعة بالقيم الأدلة العلمية فيعرِّضون الناس بذلك للخطر. ويتعين على العلماء أن يتحدثوا بصوت مسموع، كما فعلوا أخيراً في إنكلترا، حيث تحدى الباحثون الذين يجرون اختبارات على سلالة جديدة من القمح الجماعات المناهضة للتعديل الوراثي لمواجهتهم في مناظرة عامة. وقد رفضوا التحدي، غير أنهم استمروا رغم ذلك في شن هجماتهم المنظمة على التجارب الميدانية، الأمر الذي أدى إلى تضاؤل الدعم الشعبي لأولئك الناشطين.

يتعين علينا جميعاً كمواطنين أن نتصدى لهذه الجماعات، من خلال الاختيار الدقيق لأي من هذه الجماعات التي تستحق الانضمام إليها أو دعمها مالياً. كما ينبغي لنا أن نتصدى لهذه الجماعات في جلسات استماع عامة وفي الشهادات حول التشريعات المعلقة، وألا نسمح لأكثر الأصوات عاطفية بإرغام الساسة والمشرعين على الرضوخ لاختيارات تسترضي القِلة الأعلى صوتاً والأكثر صخباً، ولكنها تحرم المجتمع بالكامل من أعظم قدر من الخير. وعندما تكون الأدلة واضحة والخطر وشيكاً، فيتعين على الحكومات أن تتدخل، كما فعلت حكومة أستراليا.

لابد أن يكون للمشاعر والقيم صوت في أي ديمقراطية. ونحن في احتياج إلى حماس الدعاة والناشطين من جميع الأطراف حتى يتسنى لنا أن ندفع المجتمع إلى الأمام. ولكن عندما تتناقض هذه المشاعر والقيم تمام التناقض مع الحقائق وتعرضنا للخطر، فمن الإنصاف تماماً أن نرفع أنا وأنت وحكوماتنا جميعاً أصواتنا باسم الصحة والسلامة العامة قائلين "لقد اكتفينا من هذا الهراء".

* مُعَلِّم في برنامج الإدارة البيئية لدى مدرسة هارفارد للتعليم الممتد، ومؤلف كتاب «ما مدى خطورة الأمر حقا؟ ولماذا لا تتطابق مخاوفنا دائماً مع الحقائق»، وهو مستشار إدراك المخاطر والتواصل بشأن المخاطر.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top