مصادر السلوك الروسي

نشر في 20-04-2014 | 00:01
آخر تحديث 20-04-2014 | 00:01
 ريتشارد هاس   لا ينبغي أن تمر مدة محددة من الزمن من دون أن تخلي الصحافة السبيل للتاريخ، ولكن المؤرخين يكتبون عادة وقد استفادوا من ميزة المنظور الذي يعكس مرور سنوات أو عقود أو حتى قرون من الزمان، فالوقت ضروري لخروج المعلومات إلى النور، وكتابة المذكرات، وكشف الأحداث عن مدى أهميتها، فما يبدو تافهاً نسبياً الآن قد يتبين لنا في المستقبل أنه كان أبعد ما يكون عن التفاهة، تماماً كما قد تتضاءل أهمية ما يلوح الآن عظيم الأهمية.

ولكن الغرب لا يتمتع بترف الانتظار حتى يتسنى له فهم الأحداث الأخيرة في أوكرانيا، ويرجع هذا ببساطة إلى عدم وجود ما يضمن أن ما حدث في شبه جزيرة القرم فريد من نوعه. فالآلاف من القوات الروسية لا تزال متمركزة على حدود أوكرانيا الشرقية؛ وبمرور كل يوم تخرج تقارير جديدة عن اضطرابات داخل أوكرانيا، يزعم البعض أنها بتحريض من روسيا.

وبالتالي فنحن في احتياج إلى التحرك السريع لاستيعاب ما تنبئنا به الأحداث الأخيرة عن روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، والنظام الدولي، ولا يقل أهمية عن هذا أن نطبق الدروس المستفادة بسرعة.

إن بوتين يريد إعادة روسيا إلى ما يعتبره مكانها الصحيح في العالم، وهو غاضب حقاً بسبب ما يعتبره إهانات عانتها روسيا منذ نهاية الحرب الباردة، بما في ذلك انهيار الاتحاد السوفياتي وتوسع حلف شمال الأطلسي، وإن كان لن يعترف أبداً بأن روسيا خسرت الحرب الباردة فعلياً.

وفي الوقت نفسه، ينشغل بوتين بإدامة حكمه وضمان عدم تعرضه لنفس مصير الرئيس الأوكراني السابق فكتور يانوكوفيتش، الذي كان وكيلاً له في كييف، وهو يدرك بوضوح أن استعادة عظمة روسيا السابقة هدف يتقاسمه معه الكثير من مواطنيه. والواقع أن السياسة الخارجية من الممكن أن تؤسس لسياسة محلية جيدة.

ونتيجة لهذا فمن المتوقع أن يواصل بوتين تدخله في أوكرانيا أطول فترة ممكنة، وما دام ذلك يخدم هدفه المتمثل بتعزيز قبضته على السلطة في الداخل، فينبغي للسياسة الغربية أن تسعى إلى إحباط هذه الاستراتيجية.

إن مقاومة التدخل الروسي في أوكرانيا لا تسوغ دمج أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي، فالقيام بهذا إما أن يتطلب التدخل للدفاع عن أوكرانيا عسكريا، وهو ما ينطوي على مخاطر وصعوبات هائلة، وإما عدم الوفاء بهذا الالتزام، وهو ما من شأنه أن يثير شكوكاً كبيرة في أنحاء العالم المختلفة حول مصداقية الولايات المتحدة. والواقع أن رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما كان محقاً عندما وصف روسيا بأنها قوة إقليمية أكثر من كونها قوة عالمية، فهي قوية عند أطرافها، ولديها مصلحة كبرى في تحديد مستقبل أوكرانيا.

بيد أن الغرب لديه خيارات عدة، يتلخص أحدها في تعزيز قوة أوكرانيا سياسياً (بمساعدتها في إجراء الانتخابات وتجهيز الحكومة الجديدة للعمل بشكل جيد) واقتصادياً. وسوف تساعد في تحقيق هذه الغاية حزمة المساعدات المالية التي تم الاتفاق عليها أخيراً بقيمة 27 مليار دولار أميركي على سنتين، والتي يمولها إلى حد كبير الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، ولابد أن تركز المساعدات الأمنية على العمل المخابراتي والشُرَطي حتى تصبح أوكرانيا أقل ضعفاً في مواجهة المحاولات الروسية لزرع الفتن وإحداث الاضطرابات.

ويتمثل خيار آخر بالتحضير لجولة جديدة من العقوبات الجديدة ضد روسيا، أقوى كثيراً من تلك التي فرضت في أعقاب غزو روسيا لشبه جزيرة القرم وضمها إلى أراضيها. ولابد أن تستهدف التدابير الجديدة المؤسسات المالية الروسية والحد من السلع التي يمكن تصديرها إلى روسيا، كما ينبغي للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي نقل اتفاقهما على مثل هذه العقوبات إلى بوتين بوضوح، حتى ينتبه إلى الثمن الكامل الذي سوف يتكبده نتيجة لتسببه في زعزعة استقرار أوكرانيا.

والحاجة قائمة أيضاً إلى إضافة بُعد الدبلوماسية العامة إلى السياسة الغربية، فقد يفكر الروس أكثر من مرة قبل أن يقدموا الدعم للسياسة الخارجية التي تنتهجها حكومتهم إذا أدركوا تأثيرها في مستوى معيشتهم، وقد يصيبهم الذهول إذا اطلعوا على حجم ثروة بوتين الشخصية الكاملة، وهو الأمر الذي يجب توثيقه ونشره.

ومن الممكن أيضاً اتخاذ خطوات لإضعاف قبضة الطاقة الروسية القوية على أوكرانيا وقسم كبير من أوروبا الغربية، ومن جانبها، تستطيع الولايات المتحدة أن تبدأ بتصدير النفط وزيادة قدرتها على تصدير الغاز الطبيعي. وبوسع الأوروبيين أن يتخذوا خطوات لإدخال التقنيات التي أدت إلى طفرة إنتاج الغاز في الولايات المتحدة، ومن الممكن أن تعيد ألمانيا النظر في موقفها من الطاقة النووية.

ينبغي للأحداث الأخيرة أن تخدم أيضاً كنوبة صحيان لحلف شمال الأطلسي، ويتعين على الشعوب والحكومات أن تتخلص من الأوهام المريحة التي تهيئ لها أن استخدام البلدان للقوة العسكرية للاستحواذ على أرض جديدة ينطوي على مفارقة تاريخية. ولابد من زيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي وتعظيم القدرات، وكذا زيادة وجود أميركا في مجموعة منتقاة من بلدان حلف شمال الأطلسي، وهو ما يمكن تحقيقه حتى مع زيادة الولايات المتحدة وجودها في آسيا.

إن الاستراتيجية اللازمة لمقاومة الجهود التي يبذلها بوتين لتوسيع نفوذ روسيا إلى خارج حدودها- واستحثاث التغيير داخلها- أقرب إلى مبدأ "الاحتواء" الذي وجه السياسة الغربية طيلة أربعة عقود من عمر الحرب الباردة. والواقع أن روسيا، البلد الذي لا يتجاوز عدد سكانه 143 مليون نسمة، تفتقر إلى الاقتصاد الحديث، ولابد من منحها الفرصة للتمتع بفوائد التكامل الدولي، ولكن شريطة أن تتصرف على نحو منضبط.

وهذا لا يعني اندلاع الحرب الباردة الثانية، ولكن الحجة قوية في دعم تبني سياسة أثبتت فعاليتها في مواجهة دولة ذات طموحات إمبراطورية في الخارج، ونقاط ضعف مستترة مهلكة في الداخل.

* رئيس مجلس العلاقات الخارجية، ومؤلف كتاب «السياسة الخارجية تبدأ في الداخل».

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top