بائع الحكايات

نشر في 19-04-2014 | 00:01
آخر تحديث 19-04-2014 | 00:01
No Image Caption
من فوقي لافتة: بسطة فارغة لبيع حكايات طازجة، حقيقيّة، مجرَّبة، وماذا في داخلي؟

تعدّد الأصوات إذاً

حكايات تحت الطلب.

إحدى الأماسي في العقبة.

حينها ميريك، لا، لا عفواً فإنّ يان هو بطل قصّتنا، أمّا ميريك فقد قدِم إلى الصحراء للعمل في مؤسّسة غاز- سيك (Gas-seek Inc) أي عند الذين يبحثون عن الغاز الضائع. مسكين ميريك هذا فقد لخبطت هذه الرحلة حياته. واليوميّات لا تقول إلاّ الحقيقة. قال يان المؤلّف لـ{يان} الذي هو بطل القصّة،  له {كريم} ببسطته الفارغة الذي حشر نفسه فبدا كنكتة باردة.

لقد تجسّد.

لكنّ يان هو من كتب الرواية.

ايكون (بيت بان) من اخترعها؟ رجل مع ولد لا يعرف كيف يتّخذ قراراً...

يقول يان: قرأت عند رشيد من الإسكندرية ما كتبته مليحة من أسمرة عن جميلة من طرابلس.

{ مرحباً بكريمي، كيف الحال؟ أتمنى أن تكون الأمور عندك (OK) على أيّة حال فكرت بك اليوم كثيراً وذهبت أخيراً إلى البيمارستان في حلب، هناك حيث لم يُسعفنا الوقت أن نذهب معاً، سأحدّثك عن ذلك في مناسبة أخرى، أيّاُ كان فأنا أفكّر بك كثيراً.

اسمعني: أتمنّى وبحرارة لو سافرتُ إلى ألمانيا أو بولندا أو إلى أيٍّ من هذه البلدان الأوروبية الرائعة، لأتابع دراستي. أودّ أن أرى كيف هي الأوضاع هناك وكيف هم الناس وكيف تسير الحياة في أجواء باردة كهذه، لذلك أريد أن أسألك هل تعرف ما يجب فعله  كي أجيء إلى هناك وإلى مَن أتوجّه؟

أسمعني أخبارك، وأنا بانتظار الردّ كما أريد أن أحدّثك عن صديقتنا {جميلة} ستضحك حتماً. لا أعرف هل أحدّثك أم لا؟ لستُ أشكُّ الآن أنّ هذه الخانم من اللواتي انزلقن، فهي تتواعد كلّ يوم مع رجل آخر، وتأتي باستمرار بالهدايا. أنا آسفة! ولكن تبيّن أنّ جميلة امرأة سوقيّة، والأفضل أن تعلم بذلك من البداية. ألا ترى أنّ أنفها يُذكّر بالنَّور.

مع حبي الشديد

مليحة}

كانت مليحة تكتب بالإنكليزيّة كَمن يكتب بالعربية، دون علامات ترقيم أو حروف كبيرة.

ذهبتُ إلى نادي إنترنت (C@feinternet) مع سليم، الذي كان على موعد هاتفي أسبوعي دوري مع خطيبته في موسكو. كانت تتّصل حوالى الساعة العاشرة، فكان لدينا مُتّسع من الوقت.

قبل أن ندخل النادي أفرغنا ما تبقّى من عصير في عبوة الكولا، كي لا يُطالبنا رشيد أن نشرب أمام باب المحلّ. ورشيد هذا كان قد هاجر من مصر، وفي العقبة فتح صالوناً من طابقين للإنترنت. وضع في الطابق الأوّل صفًّا من حجيرات للهواتف، وفي الثاني طاولات بسيطة فوقها كومبيوترات وأمامها كراسٍِ بلاستيكيّة.

قال سليم:

وإذا تكرّر ما حدث في الأسبوع الماضي.

بالكاد قرأتُ رسالة مليحة الإلكترونيّة.

وإذا لم تسمعني؟

رغم الوقت المتأخّر كان الحرّ شديداً في الخارج. أتعبني الصعود عبر درجات متعرّجة مُهتزّة.

حتى لو؟ سألتُ بانفعال. لم أرغب أن أسمع شيئاً عن صديقته. فكّرتُ، فليسأل أحدهم ولو مرّة عن صديقتي! على أيّة حال لم يعد الكذب تلك التسلية التي تفرحني. ولكي يحلّ عنّي قلتُ: ستنجح هذه المرّة.

ما ورد عن الأنف في رسالة مليحة الإلكترونيّة كان مُقلقاً للغاية.

يا لها من بنت ماكرة. أرادت أن تُنفّرني من جميلة.

قلت لك؟ لوبوف عمرها 35 عاماً. قد تكون أكبر من المطلوب... شدّد سليم.

بالمناسبة! ما شكلُ أنف مليحة؟

وما قولك أنت؟

نسيت كيف كان أنفها؟ كانت مليحة زنجيّة، لذا لا بدّ أن يكون قصيراً، أفطس.

كنت معجباً بها في الصور...

لا! الآن عرفتُ! قصير، معقوف، فيه شيء من الاعوجاج، حادّ في الأعلى، يرتفع شاقاًّ خطًّا يتلاشى عند الجبهة. وقد يكون أنف امرأة سوقيّة... من أين لي أن أعرف؟

أحقًّا؟ وجّهت السؤال لنفسي، قبل أن أوجّهه له.

لربّما في لوبوف عيب ما طالما لم تتزوّج ليومنا هذا.

كنت سأزعل لو تكلّم معي شخص كما أتكلّم معه.

قبل أيّام العشرين، أنت تعرف... هي تكتب لي رسائل رائعة. تُسمّيني حبيبها. ولكن للأسف كلّ شيء بالإنكليزيّة! جرّبت نفسي مع اللغة الروسيّة، لكنّ الوقت ضيّق. كيف أتغلّب على ذلك؟ عربيّتها صفر. القضيّة معقّدة... لا يمكنني أن أطالبها. هل تعلم أنّ لوبوف تعني «الحبّ»؟

فليكن له ما يريد. سأحدّثكم بقصّته.

قبل سنة جاء {الحبُّ} في رحلة إلى العقبة، وكان سليم مرشدها في الغوص في الحيد البحري. في المرّة الثانية جاءت خصّيصاً لتراه. وكما قال لي سليم فيما بعد: كان هذا أسعد أسبوع عشته في حياتي.

وظيفتها جيّدة في الشركة. صيدلانيّة. اختصاصية. دخلها عالٍ...

أرته صور والديها وقالت: عندنا بيت في وسط المدينة، ومزرعة في الضواحي، ويمكننا أن نسكن هناك معاً. لا تشغل بالك في أيّ شيء. ستتعلّم الروسيّة ويصبح كلّ شيء على ما يرام. في النهاية ليس الأمر بهذه الصعوبة.

ووعدت لوبوف بإرسال دعوة له.

انفجر سليم صارخاً: وأنا هنا لا أزال خادماً. أُرشد السيّاح أحياناً، ونادراً ما أغوص معهم. كلّها أعمال موقّتة. ماذا تقول؟ أذهب هناك؟ لا أحد يعرفني ولا أعرف أحداً هناك، ناهيك أنّي سأكون عالة عليها. وماذا سأقدّم لها أنا هنا؟ هي لن تتعلّم العربيّة حتماً. لو كان لي عمل محترم...

كان سليم يهتمّ بمظهره كثيراً، فهو يحلق ذقنه كلّ صباح بعناية تامّة، تاركاً شاربين رفيعين ينحدران بزاوية قائمة عند زوايا الشفتين ليصلا إلى حنكه. يداه رشيقتان وناعمتان، ويطوّل ظفر خنصره، مردّداً بأنّه رمز العزوبيّة. بشرته النحاسيّة اللون وعضلات جسمه الخفيّة وشعره الكثّ المجعّد تُذكّر بشخصيّات الفنّان جيروم (Gerome) التي رسمها مستوحياً الشرق. أمّا قبّعة البيسبول المقلوبة على رأسه، وبنطال الجينز الواسع المهترئ عمداً، وقمصانه التي تكشف عن صدره، فتشهد أنه من المداومين على مشاهدة قتاة (Mtv) الموسيقيّة.

رننننننن رنننن رن رن....- تلفون.

أسرع سليم نجو الدرج فأخذتُ علبة الشوكولا وتبعته بتراخٍ.

المكالمة ليست لي لكنّها ستتصل في الحال. يجب أن تفعل ذلك. قال ذلك وكأنّه ينطق بتعويذة سحريّة تجعل لوبوف تقوم بذلك.

خرجتُ. كانت الدرجات التي لم ينته بناؤها بعد تؤدي مباشرة إلى الشارع. وبدلاً من الرصيف كنتَ تجد قليلاً من الرمال الرماديّة اللون قد تكون من التراب المُستخرج من البناء. العمارة نفسها غير مُجصّصة وتتكوّن من طابقين، تبرز من سقفها الافتراضي تسليحات حديديّة. كان فوق المدخل ضوء النيون ولافتة عُلّقت بإهمال واضح كُتب عليه (C@feinternet).

جلستُ على الدرج. أنعشني الباطون الخشن تحتي، وجرعة من العصير البارد. مرّة جاء سليم بصور لوبوف. كان الجوّ مظلماً. تقابلنا عند شاطئ المدينة. وهناك على ضوء مصباح بعيد، انطبع في ذاكرتي وجهها الشاحب، ذو الابتسامة اللطيفة، بنظّارة ذات إطار بلاستيكي، غزاه الكبر قبل الأوان. ذات مرّة قال سليم: خدّاها ورديّان وجبهتها أبداً نهار.

رن ن ن ن ن رننننن – تلفون.

ألو ألو! لوبوف؟ - بدأ يصرخ: دو يو هير مي؟ يي يي يي... أوه آي لوف يو سو ماتش...

نزلتُ من على الدرج. بدا لي أن وجودي قد يضايقه، علماً أنّ رشيد كان يجلس مقابله. أظنّ أنّي أنا من شعر بالضيق.

قال سليم الذي كان يدوخ بعد كلّ مكالمة معها: لا بدّ أنّها تحبّني كثيراً. لم تصل الدعوة بعد. واقتصر الأمر على المكالمات الهاتفيّة في كلّ يوم جمعة والتي كانت بمثابة عيد له. لم يجرؤ أن يسألها عن أيّ شيء.

في اعتقادي ما يهمّ هنا هو أنّ المرأة هي التي تحبّ. حقًّا لا أعرف... لا أرى لوبوف إلاّ مرتين في السنة فقط، لذلك عاشرتُ الكثير من الفتيات في حياتي، أوروبيّات وأميركيّات بل حتى من أوستراليا... سأريك صورهنّ في البيت حين تزورني.. أخذتُ صوراً مع كلّ واحدة منهنّ. سأريك.

«كم!.. كم هير ماي لوف! آي ميس يو سو ماتش»...

وقعت « الحبّ» في الشارع تحت أقدام الشرطة. كانت سيّارتهم الجيب بالكاد يمكنها العبور في الشارع الضيّق. ورغم الماضي العريق للعقبة إلاّ أنّها مدينة حديثة. كل جديد فيها كان صناعة أميركيّة (made in USA). كانت سيّارة الشرطة البيضاء ذات التعليق العالي تقوم بدوريّات على الكورنيش البحري، ونظرات الشرطة الحالمة تتبّع الفتيات. لم يكن مهمًّا أنّ هذه السيّارات كانت كبيرة للسير في مركز المدينة الضيّق. لم تتنزّه أيّة بنت جميلة هناك. السيّارات الكبيرة في الشوارع الواسعة تُعجب الفتيات. كُنّ يتمشّين ذهاباً وإياباً في مجموعات من اثنتين أو ثلاث بنات في شارع النزهات، متأبّطاتٍ ذراع بعضهنّ ويضحكن.

وكان سليم يصرخ من حجيرة الهاتف: «ييس بليز ويت فور مي».

المؤذنون يدعون إلى صلاة العشاء. الكورنيش يبدأ يمتلئ بالناس. رجال الشرطة يضعون النظارات السوداء على أعينهم. فيعكس زجاجها قدوداً رشيقةً، كظلال أشجار السرو وهي تتطاول. في المقاهي على الأرصفة، تشتعل النيونات وتبدأ طلائع الزبائن تصل إليها. ويحتلّ الإخوة حُماة الشرف والعرض أماكن لأنفسهم وأخواتهم، منادين العاملين في المقهى. وما إنْ تبدأ حلاوة الفراولة تفوح من النراجيل حتّى تتشتّت ظلال القدود وتتوزّع على الطاولات المتناثرة في المكان.

قد تلتقط يدٌ فضوليّة الأشباح والأحلام من منامات الرجال.

back to top