«الملاك الأبيض» بطلة الميدان قد تدخل {السياسة} في المستقبل

نشر في 11-04-2014 | 00:02
آخر تحديث 11-04-2014 | 00:02
أصبحت الطبيبة الأوكرانية أولغا بوغوموليتس بطلة في ميدان الاستقلال في كييف بتقديمها الرعاية الطبية للمتظاهرين المصابين. فقد تحوّلت إلى شخصية بارزة في هذا البلد. وقد تستغل تجاربها هذه لتدخل عالم السياسة، حسبما ذكرت في مقابلة مع مارك هوجر من شبيغل.
علت كومة من الأوراق طاولة الاجتماعات في مكتبها. احتوت هذه الكومة مئات المنشورات والكثير من إعلانات التعاطف مع أولغا بوغوموليتس التي جمعها أصدقاؤها في الميدان في كييف. تظهر بوغوموليتس في هذه المنشورات وهي ترتدي معطف الأطباء الأبيض بشعرها الأشقر القصير. وتحت صورتها ترد عبارة: أؤمن بأولغا بوغوموليتس.

كانت تهمّ بالحديث عن مستقبل أوكرانيا، التطورات التي تلت أزمة القرم، والدرب الذي يسير عليه البلد راهناً. تخبر بوغوموليتس (48 سنة) أنها دعت أصدقاء من {المجتمع المدني} للمشاركة في الحوار. لكن هذا الحدث بعد ظهر ذلك اليوم كان يتمحور حول بوغوموليتس وكومة الأوراق على طاولتها.

تذكر: {تعلمون أنني لا أملك المال لخوض حملة رئاسية}. وهنا تكمن مشكلتها. إلا أن هذه أيضاً ورقتها الرابحة. فلهذا السبب تود هذه المجموعة من الناس الجالسين أمامها انتخاب بوغوموليتس وحدها لتتبوأ المنصب الأعلى في البلد. لكنها تكتفي بالابتسام في الوقت الراهن ولا تتفوه بأي كلمة. تحب بوغوموليتس هذه الصورة البريئة التي تظهر بها في آلاف المنشورات. فتبدو فيها هانئة سعيدة، كما لو أنها من خارج هذا العالم.

بوغوموليتس طبيبة جلد متخصصة بمعالجة الأورام بالليزر. وتتحدر من عائلة تعمل في مجال الطب منذ أجيال. فوالداها وجداها أطباء، وتُعتبر خبيرة في اكتشاف سرطان الجلد في مراحله الباكرة. كذلك ساهمت في تقديم الرعاية الصحية للأيتام منذ سنوات. تملك بوغوموليتس إحدى أبرز عيادات طب الجلد والجراحات التجميلية في كييف. فتعالج المرضى من عالمَي الجمال والنفوذ، بمن فيهم بعض المشرعين ورئيس سابق. رغم ذلك، لم تجنِ ثروة كبيرة.

قبل هذا الاجتماع في مكتبها، كانت بوغوموليتس في الميدان، حيث أدلت بخطاب قرب مبنى اتحاد التجارة المحترق. فنادت ضد الفساد وانتقدت بشدة الحكومة الراهنة والتفاعل المؤذي بين السلطة والمال.

قالت بوغوموليتس: «يجب أن يعلم كل مَن في السلطة أن احتجاجات الميدان لن تنفضّ إلى أن تسمح السلطات في أوكرانيا للعدالة بأن تأخذ مجراها. نحتاج إلى المال، ونحتاج إلى السلطة. ولكن عندما يُستغَل المال للحصول على السلطة، يتحوّل إلى فساد. وعندما تُستغل السلطة للحصول على المال، فتتحول إلى ظلم».

قدِم الآلاف للاستماع إلى خطابها يوم الأحد ذاك. وفيما كانت تخطب، عمل أصدقاؤها على جمع المنشورات. وهكذا حصلوا على نحو 14 ألف منشور، أي أكثر من 14 ألف مؤيد لبوغوموليتس. ولا شك في أن هذا نجاح كبير لها. إلا أنه يعكس، وهذا الأهم، مدى الاستياء المتفشي في الميدان بعد خمسة أسابيع من الإنجاز الكبير الذي حققته الثورة: إنهاء حكم الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش الذي كان قائماً على السرقة والمحاباة.

حكومة انتقالية مترددة

خاطر المتظاهرون بحياتهم لأنهم يتوقون إلى روح جديدة في أوكرانيا ووجوه جديدة في الحكم. لكن هذا البلد لم يشهد أي تغيير يُذكر حتى اليوم في عهد رئيس الوزراء الجديد وقائد المعارضة السابق أرسيني ياتسينيوك، فضلاً عن وجوه عدة قديمة ومألوفة في عالم السياسة الأوكراني. لذلك يشعر كثر في الميدان أن هذه الثورة كانت مجرد خدعة، كما لو أن القادة الجدد يمسكون بزمام الحكم منذ زمن. وهكذا انقلب الجو العام السائد ضد الحكومة، حين بدأت أزمة القرم.

تحوّل البرلمان الأوكراني أو ما يُعرف بالمجلس الأعلى الأوكراني (يقع على بعد مئات قليلة من الأمتار عن الميدان، وتبنى سياسة تضامن حازمة خلال الأسابيع الأولى بعد ولادة الحكومة الانتقالية) إلى محكمة قبل بضعة أيام. فقد أعلن مشرعون أن الحكومة المؤقتة أخفقت، وأنها أمضت وقتاً طويلاً في انتظار مساعدة من الغرب. لذلك كثرت المطالبات بالاستقالات. فاضطر وزير الدفاع الأوكراني إيغور تينيوخ إلى التنحي لأن ردة فعله تجاه ضم روسيا القرم جاءت ضعيفة، وبدا كمن يجهل ما عليه فعله مع جنوده. وقد استُبدل بالفريق مخائيلو كوفال، الذي قد يُعتبر محترفاً في هذا المجال، إلا أنه سيخفق على الأرجح في إرضاء النقاد الذي يتوقون إلى وجوه جديدة.

مستشفى مبتكر

منذ بداية تظاهرات الميدان في نوفمبر الماضي، أمضت بوغوموليتس الجزء الأكبر من وقتها في الخارج في الطقس البارد وهي ترتدي معطفاً سميكاً. تزوجت بوغوموليتس، بعد طلاقها، من محامٍ مشهور في كييف ولها أربعة أولاد.

خلال تلك الانتفاضة، نظّمت بوغوموليتس عمليات الرعاية الطبية بالمتظاهرين المصابين. ووقفت في وجه رجال الشرطة الذين حاولوا اعتقال المتظاهرين الجرحى في المستشفيات. كذلك نظّمت الرعاية الطبية في العشرين من فبراير، اليوم الأعنف في كييف حين أصيب مئات المتظاهرين وقُتل ستون آخرون.

وقفت بوغوموليتس حينذاك في ردهة فندق أوكرانيا، الذي حُوِّل إلى مستشفى. وقد مات أناس بين يديها، بعدما راح القناصون يطلقون النار على المتظاهرين من على سطح الفندق.

نتيجة لذلك، تحوّلت بوغوموليتس إلى بطل في نظر متظاهري الميدان. فأطلقوا عليها لقب {الملاك الأبيض}، حتى إن البعض دعاها {الأم تيريزا الأوكرانية} داعمة الثورة. وعندما شكّل ياتسينيوك حكومته الانتقالية، ورد اسم بوغوموليتس على لائحة المرشحين المحتملين. فكان من المقرر منحها منصباً في الحكومة الجديدة على غرار ديمتري بولاتوف، قائد حركة {أوتوميدان} الذي خُطف وتعرض للتعذيب على الأرجح، وهو اليوم وزير الرياضة الأوكراني. ومن الأعضاء الآخرين في حركة التظاهر أندريي باروبي، قائد المتظاهرين المناهضين للحكومة في الميدان الذي يرأس اليوم مجلس الأمن الوطني والدفاع في أوكرانيا. وفي حالة بوغوموليتس، بدا من المنطقي أن تُعيّن وزيرة للصحة.

تتذكر بوغوموليتس أنها تلقت اتصالاً هاتفياً من مستشاري ياتسينيوك سألوها عما إذا كانت ترغب في المشاركة في الحكومة الجديدة. ولكن بدل أن تقبل بهذا العرض في الحال، أرادت أن تحدد شروطها كي تضمّن إنجاز تغيير حقيقي في ظل الحكومة الجديدة. فطالبت بخضوع وزارتها للمعايير الدولية، بفريق عمل جديد، وبالشفافية في تحديد كلفة الرعاية الصحية. فأصغى المستشارون إلى مطالبها بصمت، ونشروا في اليوم التالي إشاعة عنها أنها رفضت عرضهم.

كانت هذه كذبة بالتأكيد ولا تختلف عن غيرها من الأكاذيب السياسية الشائعة. لكنها شكّلت في نظر بوغوموليتس إشارة واضحة إلى أن القوى القديمة من أثرياء وسياسيين فاسدين أحكمت قبضتها على الحكومة الجديدة حتى قبل البدء بتطبيق أي سياسات جديدة.

{أرادوا صورتي فحسب}

تخبر بوغوموليتس أنها كانت تستطيع الدفاع عن نفسها بإخبار متظاهري الميدان عن خداع المستشارين، مشكلةً بالتالي جبهة معارضة ضد الحكومة الجديدة. لكنها قررت العدول عن هذه الفكرة لأنها أرادت، رغم ذلك، إعطاء هذه البداية الجديدة فرصة، فضلاً عن أنها لا ترغب في الانضمام إلى الحكومة.

تقول بوغوموليتس: {أرادوا صورتي فحسب. لكنهم لم يرغبوا في إجراء إصلاحات حقيقية}. وقد أعلن رسمياً أنها استشارت كاهنها الذي نصحها بالقبول بالمنصب، إلا أنها عدلت عن ذلك في النهاية. كذلك أخبرت موقع Daily Beast: {أنبأني قلبي، الذي يتأثر بالرياء والخداع، أن من الخطأ الانضمام إلى حكومة جديدة تتألف من سياسيين لا أعرفهم جيداً.

كان هذا على الأرجح القرار الصائب، بما أن الحكومة الجديدة بدأت تفقد اليوم مصداقيتها. يدرك الناخبون راهناً أن بوغوموليتس لا تسعى لتبوء المناصب مهما كان ثمنها، وأنها تتمسك بمبادئها وترفض التخلي عنها. ويمكنها، على الأرجح، الفوز بسهولة في الانتخابات البلدية، إلا أنها لم تقرر بعد ماذا تريد. فهل ترغب في أن تصبح العمدة أو عضواً في المجلس الأعلى الأوكراني أم تفضل الترشح لأعلى منصب في البلد وتصبح أول رئيسة لأوكرانيا؟

تجيب: «تكمن المشكلة في أننا ما زلنا نفتقر إلى الاكتفاء الذاتي وما زلنا نسعى لنيل الدعم. لا نؤمن بأنفسنا كفاية. وهذا ما يجعلنا ضعفاء أمام الدعاية الروسية، وخصوصاً في الوقت الراهن».

في ربيع 2014، تبدو أوكرانيا دولة مضطربة قلقة. فقد بات المستقبل مفتوحاً فجأة على الاحتمالات كافة، ما يعني، أيضاً، أن ما من ثوابت للاعتماد عليها. فيكفي أحياناً التفوه ببعض كلمات لتشكيل جبهة جديدة وإشعال الصراع التالي. كانت بوغوموليتس نفسها تشكك في مسائل كثيرة حتى وقت ليس ببعيد. فقد تساءلت عما إذا كان قناصو النظام مسؤولين حقاً عن موت كثيرين في الميدان.

هل تحقق أوكرانيا

في عمليات القتل؟

في مطلع مارس الماضي، باتت شكوكها هذه علانية، عندما نشر الروس على شبكة الإنترنت تسجيلاً لاتصال هاتفي اعترضوه بين وزير الخارجية الإستوني أرموس باييت وممثلة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون. خلال هذه المحادثة، ذكر باييت أن بوغوموليتس تشكك في ما إذا كان الرئيس يانوكوفيتش كان مسؤولاً حقاً عن المجزرة. وأضاف باييت في ملاحظات أكدتها لاحقاً وزارة الخارجية الإستونية: {يسود اليوم اعتقاد قوي أن شخصاً ما من الائتلاف الجديد كان يقف وراء القناصين، لا يانوكوفيتش. أخبرتني أولغا أن كل الأدلة تشير إلى أن مَن قتلوا برصاص القنص ينتمون إلى الجانبين. فبينهم رجال شرطة ومتظاهرون، ما يُظهر أن القناصين أنفسهم كانوا يقتلون الناس من كلا الطرفين}.

بعد تسريب هذه المعلومات، بدأ هاتف بوغوموليتس يرن بلا هوادة. فقد اعتبر متظاهرو الميدان أن شكوكاً كثيرة بدأت تحوم حول ثورتهم. ولكن في مقابلة مع صحيفة Telegraph البريطانية، رفضت بوغوموليتس تعليقات باييت، مصرةً على أنها لم تقل ما ذكره وطالبت أن تحقق الحكومة الجديدة في هذه الحوادث.

أصدر أخيراً وزير الخارجية في الحكومة الانتقالية الأوكرانية، أرسين أفاكوف، تقريراً جاء فيه أن الرئيس المخلوع فيكتور يانوكوفيتش وعملاء أمنيين روساً كانوا متورطين في التخطيط للأحداث التي أدت إلى استخدام القوة المميتة الشهر الماضي. إلا أنه لم يقدّم أي دليل على ذلك.

إذاً، لم تولد بعد الديمقراطية التي تطمح إليها أولغا بوغوموليتس في أوكرانيا.

back to top