دارين أرنوفسكي في نسخته الخاصة من «نوح»

نشر في 03-04-2014 | 00:01
آخر تحديث 03-04-2014 | 00:01
No Image Caption
من السهل أن نضيع في فُلك دارين أرنوفسكي. داخل مخزن أسلحة معَدَّل في بروكلين في أواخر 2012، كان أرنوفسكي يصوّر فيلم {نوح} في سفينة ضخمة ضاهت بأبعادها ما ذكرته التوراة عن الفلك.
كانت دعاماتها موثَقة معاً وبدنها مطلي بالقار وفي كل زاوية من هذا البناء المؤلف من ثلاث طبقات احتشدت مجموعة من الحيوانات الاصطناعية: الحشرات في إحداها، الأفاعي والسلاحف في أخرى، ووراء المنعطف كانت الأسود ممدّدة فعلياً مع الحملان. علّق القيمون على هذا العمل لافتة كتبوا عليها: {الحيوانات هشة، لذلك نرجو عدم اللمس}.

أمضى فريق المصمم المنفذ مارك فريدبرغ أربعة أشهر في بناء داخل الفلك لفيلم {نوح} (بنى فلكاً آخر للتصوير الخارجي قرب منطقة خليج لونغ آيلند). كذلك احتاجت شركتا Industrial Light and Magic و Look Effects إلى مدة أطول لإعداد الكائنات الحية إنما الرقمية التي ستطير، تدب، أو تزحف اثنين اثنين إلى الفلك.

رغم ذلك، شكّلت هذه المهام مجرد عقبات بسيطة في رحلة هذا الفيلم المذهل إلى شاشات السينما، بينما عمل أرنوفسكي ومؤلف السيناريو آري هاندل على توسيع قصة وجيزة إنما قيمة وتحويلها إلى فيلم طويل، من دون أن ينفّرا مموليهما والمؤمنين، علماً أن هاتين الفئتين عبرتا عن خوفهما من أن يتحول «نوح» إلى هرطقة.

رواية منسيّة

حقق هذا الفيلم، الذي بلغت كلفته 130 مليون دولار، مع بداية عرضه انطلاقة جيدة ليس لأرنوفسكي فحسب، الذي تشمل أعماله أفلاماً أقل تواضعاً، مثل Black Swan وThe Wrestler، بل لهوليوود بحد ذاتها، حيث شهدنا خلال العقود الماضية لامبالاة واضحة بالقصص الدينية، علماً أن الأفلام الدينية القليلة التي أصابت النجاح، مثل The Passion of the Christ لميل غيبسون و Son of God الجديد، كانت إنتاجات مستقلة.

ولكن إذا نجح فيلم {نوح} في استقطاب كمّ من المشاهدين (وهذا ما تشير إليه استطلاعات الرأي في مختلف البلدان)، فقد يعزز احتمالات نجاح مجموعة أخرى من الأفلام الدينية، مثل Heaven Is for Real، Exodus، Last Days in the Desert وMary.

ولكن على فيلم أرنوفسكي أن يبرهن أولاً خطأ المشككين فيه.

ذكر هذا المخرج المنهك والمتفائل بعد بدء عرض «نوح» في مدينة نيومكسيكو قبل بضعة أسابيع: «عندما يشاهد الناس فيلم، سواء كانوا مؤمنين أو لا، ستدور بينهم أحاديث عنه أعتقد أنها ستكون مثيرة للاهتمام. ولكن ثق بأن ظنك لن يخيب عندما تشاهد هذا الفيلم».

عندما كانت قصة الخيال العلمي Pi التي أخرجها أرنوفسكي قبل نحو 15 سنة توشك أن تنزل إلى دور العرض، زار هذا المخرج متحف التكنولوجيا الجوراسية في مدينة كولفر في كاليفورنيا. كان هذا المتحف المذهل والمبدع علمياً المخصص لتاريخ الأرض يعرض تصميماً صغيراً كاملاً عن فلك نوح.

كان بإمكان أرنوفسكي أن يتجاهله بكل سهولة، لكنه لفت نظره وأشعل مخيلته. يتذكر هذا المخرج البالغ من العمر 45 سنة: {بدا لي نموذجاً منحوتاً مميزاً. ففكرت: ‘من الغريب أن رواية التوراة هذه منسية منذ 50 سنة’. شكّلت روايات التوراة في مرحلة ما نوعاً قائماً بحدّ ذاته قدّم بعض أعظم الأفلام التي صُنعت. لكن التوراة ما كانت، آنذاك، قد خطرت ببال أحد منذ زمن}.

بعيد ذلك، نجح أرنوفسكي في تقديم فكرته هذه عن الطوفان إلى المنتجة ليندا أوبست. ولكن عندما عُرضت سلسلة جون فويت التلفزيونية القصيرة بعنوان {فلك نوح} (وما احتوته من هجوم تعرّض له النبي من سفينة قراصنة شبيهة بما نراه في Waterworld)، توقف فيلم أرنوفسكي {نوح} قبل أن تتسنى له فرصة كتابته.

فرصة مناسبة

بعد انتهائه من فيلم Requiem for a Dream بحلول 2003، بدأ أرنوفسكي العمل مع كاتب السيناريو آري هاندل (زميله في الجامعة وعالِم أعصاب سابق) على نص {نوح}. ولكن لم يأخذ أرنوفسكي هذا الفيلم على محمل الجد، إلا عام 2006.

إلا أن انطلاقته لم تكن جيدة. فقد قررت شركة Universal في البداية إنتاجه، غير أنه فقَدَ الزخم الضروري مع رحيل مديرة هذا الأستوديو ستايسي سنايدر وإخفاق فيلم Evan Almight  (إنتاج Universal) للمخرج ستيف كارل (2007)، الذي بلغت كلفته 175 مليون دولار، ودارت أحداثه الفكاهية في فلك. ولكن بدل تلف هذا النص، لجأ أرنوفسكي وهاندل إلى معدّ القصص المصورة الكندي نيكو هنريشون، الذي بدأ عام 2008 عملية مضنية لتحويل هذا النص إلى سلسلة من القصص المصورة (صدرت أولاً بالفرنسية، إلا أنها جُمعت أخيراً في كتاب واحد بالإنكليزية).

عندما حقق فيلم أرنوفسكي Black Swan نجاحاً تجارياً مع تخطي مبيعاته العالمية على شباك التذاكر 329 مليون دولار، ومنح الممثلة ناتالي بورتمان جائزة أوسكار، استعاد فيلم {نوح} زخمه. فقد وافقت شركة المنتج أرنون ميلشان Regency Enterprises في مطلع 2011 على تشاطر كلفة هذا الفيلم مناصفة مع شركة Paramount Pictures. فاختير راسل كرو لأداء دور نوح، جنيفر كونيلي زوجته نعمة، ولوغان ليرمان ودوغلاس بوث وليو ماكهاغ كارول أبنائه حام وسام ويافث.

لكن ما القصة الفعلية التي يرويها هذا الفيلم؟

منذ بداية مسيرته في عالم الأفلام، انجذب أرنوفسكي إلى الشخصية المهووسة المعزولة نسبياً التي تحارب قوى جبارة، داخلية وخارجية، أو شياطين حقيقية ووهمية: شون غوليت بدور عالم الرياضيات المعذب في Pi، جاريد ليتو بدور المدمن في Requiem for a Dream، بورتمان في دور راقصة الباليه المضطربة عقلياً في Black Swan، وميكي رورك في دور الرياضي الذي أفل نجمه في The Wrestler.

يمثل نوح، بطرق عدة، خيطاً مماثلاً في النسيج الروائي هذا. لكن قصته ظلت محدودة بما روته التوراة: لم يشأ أرنوفسكي وهاندل تخطي التوراة. ولكن كان عليهما صوغ قصة تدوم ساعتين من بضع آيات في سفر التكوين بالكاد يتكلّم فيها نوح.

بين الخير والشر

يذكر هاندل، الذي شارك أرنوفسكي في كتابة The Fountain ويشاركه اليوم في الإنتاج: {قرأت هذه الرواية ملايين المرات. ولاحظت أنها تحتوي مكونات القصة الجيدة، وخصوصاً معركةً حقيقية بين الخير والشر}.

لكن هذا الأساس يحتاج إلى بنية تحيط به. لذلك عمد أرنوفسكي وهاندل إلى صوغ قصة مليئة بالحركة مقتبسة من التوراة تشمل هلاكاً شاملاً وتضم حيوانات أسطورية عملاقة استوحياها من النفليم في التوراة وساعدت نوح في تشييد سفينته الضخمة.

يوضح هاندل: {أدرك أن علينا الالتزام بنص التوراة وألا نعارضه مطلقاً}. نتيجة لذلك، استشار هاندل وأرنوفسكي علماء الدين واطلعا على نصوص لا تحصى. كذلك لجآ إلى المدراش اليهودي الذي يتضمن قصصاً تملأ الفجوات وتفسر معاني روايات التوراة. ولا شك في أن رواية التوراة عن رجل في القديم أُمر بإنقاذ اثنين من كل جنس قبل أن يمحو الله كل البشرية الخاطئة تثير أسئلة عميقة عن هذه الشخصية والزمن الذي عاشت فيه، علماً أن التوراة لا تقدّم أي أجوبة عن ذلك.

حاول أرنوفسكي وهاندل البحث باستمرار عن أي مؤشرات تكشف لهما أعماق هذه الرواية. بكلمات أخرى، هل عانى نوح من الشعور بالذنب الذي ينتاب عادةً الناجين من الكوارث؟ وما سبب هذا التوتر في عائلته؟

بما أن أرنوفسكي وهاندل كانا قد أصبحا والدين حديثاً، راحا يتحدثان عن العدالة والرحمة وعن دور هاتين الصفتين في تربية الأولاد.

يوضح هذا المخرج: {إن بالغت في التعامل بعدل مع أولادك، دمرتهم بصرامتك. أما إذا بالغت في التعامل معهم برحمة، فتدمرهم بليونتك المفرطة. لذلك على كل والد صالح الموازنة بين هاتين الصفتين. وإذا تأملت ما تعنيه كلمة صالح (يوصف نوح بالرجل الصالح)، تلاحظ أنها تعني الموازنة بين العدالة والرحمة}. ويتابع: {أردنا أن يدرك نوح شرّ الإنسان منذ مستهل الفيلم ويرغب في تحقيق العدالة. ولكن مع تطور الأحداث يصبح رحيماً، مثل الله، ما يجعله رجلاً صالحاً}.

رغب أرنوفسكي في تصوير مدى انحطاط البشرية، فصوّر الأرض كشخصية، مستخدماً مشاهد من أيسلندا أظهر من خلالها أن الأرض باتت جرداء قاحلة. نتيجة لذلك، صار العالم وما فيه بحاجة إلى بداية جديدة. ولا شك في أن هذه الرسالة البيئية تلاقت مع أفكار النقاد المحافظين، وإن بطريقة خاطئة. نتيجة لذلك، اتسع مدّ المشككين حتى شمل الشركة المنتجة.

عقبات إنتاجية

واجه إنتاج الفيلم الفعلي عقبات كثيرة أيضاً. ففي أواخر 2012، أوقف إعصار سندي الإنتاج فترة وجيزة، خصوصاً أن منازل بعض أعضاء فريق العمل في نيويورك، بمن فيهم المنتج سكوت فرانكلن، تقع مباشرة في مسار العاصفة. يذكر فرانكلن: {كان علينا الاتحاد لنتمكن من اجتياز محنة كهذه}.

لكن المشكلة الحقيقية كمنت في مدى تأثير هذا الفيلم، خصوصاً عندما شعرت شركة Paramount أن {نوح} قد يسيء إلى بعض المتدينين المتشددين. لذلك بدأت تختبر نسختها الخاصة من هذا الفيلم، فيما كان أرنوفسكي يعمل بدأب لإنهاء نسخته الخاصة. لكن فرانكلن يؤكد أن نسخة أرنوفسكي، مع أنها لم تكن منجزة بالكامل وتعوزها بعض المؤثرات البصرية، حققت نجاحاً أكبر من نسخة Paramount، علماً أن هذه الأخيرة كانت أكثر إتقاناً ولم تُحذف منها مشاهد كثيرة.

يتابع فرانكلن موضحاً: {أعتقد أن كل الأفلام الضخمة، مثل نوح، تصطدم بعقبات مماثلة. لا أظن أننا حالة استثنائية. لكننا تمسكنا برؤيتنا إلى هذا الفيلم. وأعتقد أن المميز في هذه العملية أن الكل أجمعوا على أن نسختنا هي الفضلى}.

لكن Paramount استغفلت معدي هذا الفيلم مرة أخرى بموافقتها في أواخر فبراير على إضافة ملاحظة تخلي فيها مسؤوليتها عن المواد المخصصة للترويج لفيلم {نوح}، من دون أن تعلِم حتى أرنوفسكي.

جاءت هذه الخطوة بعدما اعترضت مجموعات مسيحية، بما فيها National Religious Broadcasters، على طريقة تفسير هذا المخرج للتوراة.

كتب جيري جونسون، رئيس National Religious Broadcasters ومديرها التنفيذي، في مدونتين بعد مشاهدته الفيلم أنه يعتبر بعض أجزائه {جيدة}، إلا أن مديحه هذا ظل فاتراً.

جاء نقد جونسون لفيلم {نوح} أشد عنفاً. فقد اعتبر أن أحد المشاهد عن التطور {سيشكل مصدر قلق لكثيرين} من المؤمنين بالخلق، أن {بعض التفاصيل الثانوية في التوراة لا تبدو واضحة}، وأن شخصية نوح في رواية أرنوفسكي تبدو قاتمةً جداً في بعض الأماكن، ما {يدفعك إلى النفور منها}.

لكن قادة دينيين آخرين ومجموعات معنية بدوا أقل عنفاً في انتقادهم هذا الفيلم، بمن فيهم ممثلون عن American Bible Society، Catholic Voices USA، Christian Film and Television Commission، والسفير الأميركي السابق إلى الفاتيكان.

تهدئة المؤمنين

هدفت ملاحظة Paramount إلى تهدئة روع أناس أمثال جونسون وتحضير المشاهدين إلى ابتكارات أرنوفسكي. لذلك أشارت إلى أن الفيلم {مستوحى من قصة نوح} وأن القيمين على هذا العمل {حصلوا على ترخيص فني}.

يدرك أرنوفسكي، الذي يعتبر نفسه ملحداً وباحثاً في التوراة، أنه مهما أجرى من أبحاث حول فيلمه ومهما أولى التفاصيل من اهتمام (إذا تأملت عن كثب تلاحظ أن ثمة سبعة أزواج من {الحيوانات الطاهرة}، كما يذكر سفر التكوين، وزوج من الحيوانات الأخرى)، سيجد الناس ما ينتقدونه. لذلك يؤكد أنه يعتبر أن الفيلم مخلص للنص الأصلي قدر المستطاع. ويضيف: {لا أريد معارضة النص. فلا يمكنك في النهاية حذف السايكلوب من أعمال هوميروس. لم نضمن هذا الفيلم ما نخشاه ولم نقلل من احترام أحد، بل أخذنا هذه الرواية وحولناها إلى أسطورة}.

back to top