«يهود بلا مال» لمايكل غولد... فقراء نيويورك

نشر في 10-03-2014 | 00:01
آخر تحديث 10-03-2014 | 00:01
صدرت عن دار طوى للنشر رواية «يهود بلا مال» للكاتب الأميركي مايكل غولد ترجمة عمر صالح علماني، ورغم أن الرواية قديمة لكنها ما زالت معبرة عن كثير من القضايا الإنسانية والاجتماعية في العالم.
الأرجح أننا لم نقرأ رواية لمايكل غولد مترجمة إلى العربية من قبل، ولا يوجد أي خبر عنه على الشبكة العنكبوتية، هو اسم قديم في بلاده لكنه جديد علينا، والحال أنه يصعب الفصل في كتابات مايكل غولد بين السيرة الذاتية والمتخيل، لذا من الأفضل تصنيف كتاب «يهود بلا مال» كرواية نصف متخيلة، فهي مبنية، في معظم أحداثها، على تجارب من طفولة الكاتب، وتعد إحدى أهم المواد التي توثق الحياة الأسرية في الجزء الشرقي الأسفل من مدينة نيويورك، المتعارف عليه باسم لُوِور إيست سايد، في مطلع القرن العشرين. نيويورك التي كانت وما زلت مصنعاً ومصدراً لإلهام الكثير من الشعراء والروائيين والموسيقيين ومدينة الكلمة والنغمة والجنون والأحلام والفوضى...

رواية «يهود بلا مال» النابعة من قلب المدينة الأميركية، تقدم في الوقت نفسه، وصفاً مؤثراً لمعاناة الطبقة العاملة المعدومة، وتوظف مفردات الشارع العامية والصورية الجارية، لتكون صرخة من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية لفقراء المجتمع الأميركي، وتقدم وصفاً لوقائع لم تعد تغوي الروائيين في هذه المرحلة، اذ باتوا يبحثون عن مواضيع يغلب عليها الخيال والأفكار، ولم يعد الفقراء اليوم مصدراً لرواية تجذب القراء.

بطل الرواية يدعى مايك أو مايكي، ولد في أميركا ابناً لأسرة من المهاجرين، وعاش في شارع كريستي في لُوِور إيست سايد بمنهاتن في بداية القرن العشرين. وكان عضواً في عصابة صبية تضم نحو عشرة شبان يقومون معاً بسرقة الفواكه من بائعي العربات، ويقذفون القطط الميتة على أعدائهم وكأنها صواريخ، ويستمتعون بالسباحة في الصيف في نهر إيست ريفر القذر.

مايكي هو المتمرد نيجر، أي الزنجي، ويدعى كذلك بسبب لون بشرته الداكن. إنه صبي يهودي شجاع، لكنه تحول في النهاية إلى «أزعر» نتيجة الفقر. لا يحاول غولد في روايته تجنب استعمال الألفاظ المهينة والساخرة التي يستعملها سكان الأحياء الفقيرة لتمييز الاختلافات العرقية والإثنية. والـ إيست سايد بالنسبة إلى غولد ليس أرض الانصهار في بوتقة واحدة أو لوحة فسيفسائية متعددة الأعراق، بل هو أرض معركة تدور رحاها بين المجموعات العرقية والإثنية المختلفة.  

يتضمن طاقم شخصيات الرواية أناساً من مختلف الفئات والأوساط: قوادون وعاهرات، ملاكمون ومدمنو مخدرات، نصابون ورجال شرطة أفظاظ، حاخامات وأساتذة عبرية قساة، «زعران» وسياسيون بلا ضمير، أطباء طيبون وآخرون جشعون، مؤجرو بيوت قساة ويهود ويهوديات فقراء.

تجارة البؤس

يضع غولد الجنس في صدر المشهد الذي يرسمه لعالم البؤس المغلق، إنه تجارة واسعة الانتشار. يُحدق بالأطفال خطر الشاذين، تُستغل النساء. الاغتصاب الجماعي والدعارة بالعنوة هما من المظاهرة الرائجة. كان الفناء الخلفي لعمارة مايكي، في ما مضى، مقبرة صغيرة، وقد رصفت أرضية الفناء الآن بألواح قبورها التي تعود إلى مئة عام. ينبش الأولاد قبور أوائل المستوطنين في مدينة نيويورك ويجمعون العظام، ويستنبطون حكايات خيالية من تلك الآثار الأميركية. رسالة غولد هي أن نيويورك ملك للجيل الجديد من الأحياء الذين لا يحترمون الماضي وليسوا بحاجة إليه.

تقدم الرواية وصفاً دقيقا لحياة مايكي من الخامسة حتى الخامسة عشرة من عمره، يعيش في شقة بائسة مع أمه كاتي، مهاجرة من هنغاريا، والده هيرمان، مهاجر روماني، وأخته الصغيرة إستر، وأخ رضيع غير مسمى يولد في نهاية القصة.

مايكي صبي متفوق في المدرسة رغم تعنت بعض المعلمين وازدحام صفوف الدراسة. يكره دروس اللغة العبرية التي يُفرض عليه حضورها كل مساء، لأن المعلم جاهل وتفوح منه روائح كريهة، ولأنها دروس تافهة بالنسبة إلى مايكي الذي لا يفهم معاني الكلمات العبرية التي ينشدها.

يتسكع مع أفراد عصابته في شارع كريستي، يخوضون المغامرات والمجازفات، خصوصاً  عندما يغادرون حيهم ويتوغلون في أراض أجنبية مثل حي إيطاليا الصغرى.

نرى من خلال عيني مايكي تردي أحوال عائلته. فأبوه هيرمان يعمل نقاشاً أو دهان بيوت. وكان قد افتتح، بعيد وصوله إلى أميركا، مشغلا مع ابن خاله الذي احتال عليه وأخرجه من العمل. اختفى ابن الخال وبقي هيرمان مهووساً بتلك الخيانة. لم يستطع افتتاح مشغل آخر لعدم تمكنه من جمع الثلاثمائة دولار اللازمة لذلك.

صارت الأم تعيل العائلة، حصلت على عمل في أحد المطاعم بينما كان زوجها مقعداً. واستطاعت التعامل مع مالك البيت الكريه حين لم يعد لديهم ما يكفي لتسديد أجرة المسكن. صار مايكي يبيع الصحف في الشارع لإعانة عائلته. ثم وقعت أسوأ الكوارث التي يمكن أن تصيب أية عائلة: موت أحد الأبناء.

تشرف أخت مايكي الصغيرة على تدبير شؤون المنزل حين تخرج والدتها الى العمل في المطعم. وفي إحدى الأمسيات المثلجة تخرج الفتاة للبحث عن حطب الموقد، فتصدمها بغتة عربة شحن. تسقط بين حصانين، تدهسها العجلات الثقيلة، وتموت في المستشفى. تغرق العائلة في الهم والغم.

يصور مايكل غولد في «يهود بلا مال» القوة التدميرية للفقر. الحياة في الأحياء الفقيرة تشبه الحياة في الأدغال. يرزح السكان تحت وطأة ظروف معيشية متدنية، حيث تنتشر البطالة والممارسات الجائرة أمام عدم اكتراث شرائح واسعة من المجتمع.

وعلى الرغم من أن الرواية صدرت عام 1930، حين كانت الحركة الصهيونية في بدايتها، إلا أن المؤلف يكشف، بصورة ساطعة ومفصلة، كيف يعمد الزعماء الصهاينة، من أمثال باروتش غولدفارب وزكريا كوهين، إلى استغلال فقراء اليهود في الانتخابات الأميركية وتقديم الوعود لهم بالمساعدة في سبيل مصالحهم السياسة، ولكنهم يقدمون الوعود ببساطة ثم ينسونها بالبساطة نفسها.

تنتهج الرواية المذهب الطبيعي في السرد، أحداثها مستمدة من الصراعات والنزاعات بين الأجيال والثقافات، ومن المآسي العائلية التي ما زالت تستشري بين الطبقات الفقيرة في المناطق الحضرية. قد تبدو الحبكة مفككة وبناء الرواية غير منتظم، لأن غولد يشمر عن ساعديه ويلتقط صوراً للحي الذي أمضى فيه طفولته، وعاصر صراعات الإثنيات المتنوعة في نيويورك، عصابة الأولاد التي تجتمع للدفاع عن نفسها في الطرقات، الأخوّة التي تجمع ربّات البيوت للتعاون والصمود في مواجهة الجور، عمال المصانع الذين يقارعون أرباب عملهم، المتدينون اليهود من الطراز القديم الذين يناضلون عبثاً للحفاظ على قيم وثقافة أكل عليهما الدهر وشرب.

نبذة

ولد مايكل غولد عام 1893 في إيست سايد، في حي مانهاتن، وأعطي عند ولادته اسم اتزوك اسحق غارنيش، ولدى إدخاله المدرسة الابتدائية عُدّل اسمه ليصبح إيرفينغ ثم إيروين، وكان الغرض من ذلك التعديل التخفيف من يهودية الاسم. ومنذ العام 1921 تبنى الكاتب، بصورة نهائية، اسمه الأدبي مايكل غولد، إما تيمنا باسم ناشط ثوري حمل الاسم نفسه، أو على الأرجح، في محاولة منه لتجنب حملة الاعتقالات التي شنتها الحكومة الأميركية ضد المنظمات الثورية والمنتسبين إليها.

back to top