آذر نفيسي تكتب «أشياء كنتُ ساكتةً عنها»

نشر في 10-02-2014 | 00:01
آخر تحديث 10-02-2014 | 00:01
No Image Caption
{أشياء كنتُ ساكتةً عنها} للروائية آذر نفيسي صاحبة رواية {أن تقرأ لوليتا في طهران}.
تصدر الرواية قريباً عن منشورات {الجمل}، وقد خصت نفيسي {الجريدة} بهذا الفصل.
 جينات فاسدة

 

في أحيان كثيرة كانت أمي تقول إنني عاندتها من لحظة ولادتي. في الظاهر إنني في لحظة الولادة تحديداً سعلتُ وأخرجتُ الدم من حنجرتي واستسلمتُ للموت. كانت تود أن تروي قصة كيف أنني خلال طفولتي رفضتُ أن أرضع، وفيما بعد رفضتُ أن آكل، ولم أستسلم إلا تحت تهديد أبر الأطباء، أو السيف المروِّع لصديق كولونيل. ولسببٍ من الأسباب، لم تكنْ تسمح لي بتناول الخيار، أو الجوز. ذات مرة أعطتني كمية كبيرة من زيت كبد القِد بحيث سبب لي ذلك طفحاً جلدياً مصحوباً بحكة شديدة. وحينما كنا أنا وأخي مصابين بالحمى القرمزية بقينا حبيسيْ غرفة مظلمة طوال أربعين يوماً، لأنها كانت تعتقد أن الضوء يسبب العمى للأطفال المصابين بالحمى القرمزية. لاحقاً، حينما أصبحتُ بالغةً، كنتُ أسرد غالباً قصة كيف كانت تغذيني بكمية كبيرة جداً من عصير العنب ذات صباح بحيث أنني تقيأت. ولم أمسْ العنب مدة ثلاثين عاماً تقريباً، إلى أن أوقعتُ ذات ليلة في منزل إحدى صديقاتي حبتي عنب في نزوةٍ من النزوات في كأسي واكتشفتُ لذة أن أطحنهما بأسناني.

 كنا نتخاصم في أحيان كثيرة بشأن لُعب الأطفال خاصتي التي كانت تُحبس عادةً في إحدى الخزانات. كانت أمي تختار دوماً لُعبي وبين الحين والآخر كانت تسمح لي باللعب بها مدةً وجيزةً، قبل أن تعيدها ثانيةً إلى الخزانة. كانت هنالك دمية صغيرة تزحف على أطرافها الأربعة وأرنب كنتُ مولعةً ولعاً خاصاً به كانت قد جلبته من باريس صديقتها منير جوون. كان الأرنب يقرع على الطبول وكان أبيض اللون وزغِباً، إنما بسبب الطبول لم يكن بالمستطاع احتضانه بصورةٍ مناسبة. كم كنتُ أحب إلى درجة العبادة الفراء الأبيض الناعم الذي يكسو جسم ذلك الأرنب الذي يصعب الحصول عليه! بعد مغادرتي المنزل بوقتٍ طويل واصلت أمي إضافة المزيد والمزيد إلى مجموعة اللُعب، التي كانت تدّعي أنها ستصبح ملكاً لي ذات يوم. وحينما رحلتْ إلى العالم الآخر، لم يستطع أحد أن يعثر على اللُعب. كانت قد اختفت، شأنها شأن سجاجيدها العتيقة النادرة، وخزانتي ثياب مليئتين بأطباق المائدة المصنوعة من الفضة، وقطع النقد الذهبية، وأواني الخزف الصيني من زواجها الأول، ومعظم مجوهراتها.

أول مرة سُمح لي باللعب بواحدة من أفضل الدمى خاصتي: وهي دمية من الخزف الصيني ذات عينين زرقاوين وشعر أشقر طويل وفستان فيروزي اللون، رحتُ أرميها عالياً في الهواء وأمسكُ بها المرة تلو المرة إلى أن وقعت على الأرض، وتهشم وجهها إلى شظايا. وبمرور الأعوام سوف أفقد أو أحطم أشياءً عزيزةً جداً عليَّ، بخاصة تلك التي وهبتني إياها أمي. الخواتم والأقراط، والمصابيح العتيقة، والتماثيل الصغيرة، يمكنني أن أراها كلها بجلاء. ماذا يعني فقدان هذه الأشياء؟ ألم أكنْ أنا هكذا دوماً، ألم أكنْ من طراز الأشخاص اللامبالين الذين يضيعون الناس والأشياء؟

يمكنني تتبع سير أول معركة حقيقية من معارك الإرادات خاصتنا حتى ذلك الزمن حينما كنتُ في نحو الرابعة من عمري. كانت هذه المعركة تحديداً بسبب موضع سريري. كنتُ أريده قرب النافذة، كنتُ أحب تلك النافذة، بحافتها الواسعة حيث كان بمستطاعي أن أرتب الدمى خاصتي ومجموعة اللُعب الخزفية العائدة لي. كانت أمي تريده (أي السرير) قرب الجدار وبجانب الخزانة. وفي كل مرة كانت تذعن فيها تعود خلال يوم أو يومين إلى خطتها الأصلية. وذات مساء حينما رجعتُ إلى البيت من اللعب مع ابنة الجيران الأرمن، وهي طفلة خجولة في سن الرابعة لم أكنْ أفترق عنها، أعادت أمي سريري ثانيةً إلى مكانه قرب الجدار. صرختُ مراراً خلال تلك الليلة ورفضتُ تناول عشائي. في أي ليلة أخرى كانت سترغمني على الأكل، لكنها تلك الليلة استثنتني من ذلك وبقيتُ أبكي إلى أن غلبني النعاس فنمت.

 في صبيحة اليوم التالي أستيقظ من النوم في الجهة البعيدة البغيضة من الغرفة، يملؤني الاستياء المصحوب بالدمع. يأتي أبي إلى جانب سريري باسماً.

***

 كنا أنا ووالدي قد بدأنا نكتسب تدريجياً وتيرةً ما: يروي لي والدي كل ليلة قصةً من قصص وقت النوم. لكنه خلال صبيحة هذا اليوم تحديداً شرع يعاملني معاملة خاصة. يقول، وهو يضع على طاولةٍ بجنب السرير صحناً صغيراً من الخزف الصيني ملأه بالشوكولاته، إذا كنتُ فتاةً صالحةً وابتسم بوجهه أكبر ابتسامة أستطيع أن أحشّدها سوف يخبرني بسرٍ ما. أي سر هذا الذي سيكشفه لي؟ ليس بوسعه أن يفشي الأسرار لفتيات حزينات كثيرات التجهم. لكنني عنيدة وأرفض الإذعان؛ ووجب عليه أن يخبرني بالسر من دون أن يحصل على شيء مقابل ذلك. يقول: حسنٌ، إذاً، لكنني أراهن أنكِ ستبتسمين حينما تسمعين خطتي.

يقول بتآمر: دعينا نفعل شيئاً جديداً. لنخترع قصصنا الخاصة بنا. أي قصص؟ أسأله. قصصنا الخاصة بنا؛ بوسعنا أن نفعل أي شيء يحلو لنا. لا أدري كيف أفعل ذلك، أقول له. بلى، يمكنكِ أن تفعلي، فكري في أكثر شيء تريدينه، وبعدها اخترعي قصةً عنه. ما هو الشيء الذي تريدينه أكثر الآن تحديداً؟ أقول: لا شيء. يقول: لعلكِ الآن تحديداً ترغبين أن يعود سريركِ إلى مكانه لصق النافذة، لكن أتعرفين ماذا يريد سرير نومكِ؟ أهز كتفيَّ عن جهل. يقول: لِمَ لا نخترع قصةً حول فتاةٍ صغيرة وسرير نومها... هل سمعتِ من قبل عن سريرٍ يتكلم؟

 وهكذا ابتكرنا طقساً جديداّ: من ذلك اليوم فصاعداً، كوّنا أنا ووالدي لغةً سرية. اختلقنا قصصاً كي نفشي مشاعرنا واحتياجاتنا، وبنينا عالمنا الخاص بنا. في بعض الأحيان كانت القصص التي اخترعناها دنيويةً جداً. كلما فعلتُ شيئاً ما لم يكنْ يوافق عليه، يفصح عن عدم موافقته بشكل قصصي، فيقول، على سبيل المثال: {كان هنالك رجل أحب ابنته حباً جماً، لكنه شعر بأذىً شديد حينما وعدته بألا تتخاصم مع المربية... {وفي ذلك الوقت كوّنا وسائل اتصال سرية أخرى: كلما أفعل شيئاً خاطئاً بحضوره، يضع أبي سبابته على أنفه كعلامة تحذير. وإذا أردتُ أن أتذكر واجباً مهماً، أنقر على أنفي بإصبعي سبع مرات متعاقبة، وفي كل مرة أعيد ما يجب عليَّ أن أفعله، وهي وسيلة ما أزال أستخدمها حتى يومنا هذا. في هذا العالم السري لم يكنْ لأمي دور فيه. بتلك الطريقة انتقمنا من أعمالها الاستبدادية. وسأتعلّم بمرور الزمن أنه بوسعي دوماً أن أجد ملاذاً في عالمي المتخيَّل، ذلك العالم الذي لا أستطيع فيه أن أنقل موضع سريري ليكون لصق النافذة، بل أطير معه خارج النافذة إلى مكانٍ لا يقدر أن يدخله أي إنسان ولا حتى أمي، ولا تكون فيه سلطة لأي فرد عليَّ.

***

 في مطلع التسعينيات، نشر والدي ثلاثة كتب للأطفال استندت على نصوص كلاسيكية. أحد هذه الكتب كان نسخةً من الشاهنامه المعروف بالإنكليزية بوصفه كتاب الملوك الذي كتبه الشاعر الملحمي الفردوسي. في مقدمة كتابه، يشرح والدي أنه في البداية روى هذه القصص لنا، نحن طفليه، حينما كنا في نحو الثالثة أو الرابعة من العمر، وأنه واصل إرشاده من خلال تعريفنا على التحف الفارسية الكلاسيكية العظيمة الأخرى: كتاب مثنوي لجلال الدين الرومي، وكولستان وبستان لسعدي، وكليلة ودمنة. ويكتب أننا لاحقاً واصلنا قراءتها بمفردنا. ما يؤكد عليه في هذه المقدمة أنه على الإيرانيين في زمنه أن يعرفوا المزيد عن أسلافهم وقيمهم من خلال القراءة الفاحصة لـ الشاهنامه. يقول إنه سعيد أنه من خلال هذه الوسيلة} رأينا إيران، وسمعناها وأحسسنا بها في منزلنا اليوم، وهي تدفئ أفئدتنا...}.

كلما يتحدث أبي عن الفردوسي يتخذ صوته نبرة تبجيل. علّمنا أن الشعراء يحتاجون إلى نوعٍ خاص من الاحترام، يختلف عن الاحترام الذي نكنّه لمعلمينا وكبار السن من جلدتنا. ذات مرة، حينما كنتُ في عمر مبكر جداً، ربما في نحو الرابعة، طلبتُ من والدي أن يخبرني بمزيد من القصص عن السيد الفردوسي هذا. ليس (السيد )، صحح كلامي. إنه الشاعر الفردوسي. وعلى مدى زمنٍ طويل بعد ذلك طلبتُ منه أن يُسمعني القصص عن الشاعر الفردوسي. تشكلت فكرتي الأولى عن إيران من خلال حكايات أبي المأخوذة من الشاهنامه.

إن لم تخني الذاكرة، كان والداي وأصدقاؤهما يتكلمون عن إيران بوصفها طفلاً محبوباً إنما مبذر وكانوا يتشاجرون باستمرار بشأن رفاهيته. وبمرور الأعوام اكتسبت إيران، بالنسبة لي، هويةً ذات تناقض طاهري: كانت مكاناً واقعياً، محدداً بالموضع الذي ولدتُ وعشتُ فيه، واللغة التي تحدثتُ بها، والطعام الذي تناولته، وفي الوقت نفسه كانت فكرة أسطورية غامضة، تشجع على كل صنوف الفضائل والقيم، وهي رمز المقاومة ورمز الخداع.

بالنسبة لأمي ليس ثمة بلد آخر. كانت تتحدث غالباً عن أمكنة أخرى سافرت إليها. عبرت عن إعجابها بتلك المدن والبلدان، إلا أن إيران هي بلادها. في حين كان والدي يواصل باستمرار جداله وكفاحه حول معنى أن يكون المرء إيرانياً، أما أمي فلم تكنْ تواتيها مثل هذه المسائل. فبعض الأشياء كانت بالنسبة لها غير قابلة للتغيير. بدا كما لو أنها كانت إيرانية من طريق الجينات، كعينيها الداكنتين الجميلتين، الداكنتين جداً بحيث كانتا تبدوان سوداوين، أو اللون الزيتوني الفاتح لبشرتها. كانت تنتقد الإيرانيين بالطريقة نفسها التي تستهجن فيها سلوك عضوات معينات من جماعتها، لكنها لم تنسبْ ما أدركته بوصفه عيوبهن إلى إيران.

 كانت أمي تحترم الفردوسي، شأنها شان أي إيراني أو إيرانية، غير أنها سخرت من استغراقنا في الأدب، معتبرةً إياه مضيعةً للوقت. وفي ما بعد وجدتُ تفسيراً حيوياً أكثر لبغضها لصناع الأدب القصصي: خطر ببالي يوماً أنها لم تشأ أن يكون ثمة منافسون لها. إذ انها خلقت عالمها الخاص وأسطورتها الخاصة وليس ثمة حاجة إلى الآخرين الذي يكسبون رزقهم من هذه الأشياء.

back to top