زمن البعث السوري - تاريخ موجز - للكاتب حازم صاغية 11 النظام السوري يحصد العاصفة بعدما زرع الريح

نشر في 22-09-2011 | 01:50
آخر تحديث 22-09-2011 | 01:50
تضخّم البعثيين الكمي ترافق مع الخبز المفقود والكرامة الفردية المهدورة والحرية المأكولة

في الحلقة الحادية عشرة والأخيرة من حلقات «كتاب زمن البعث السوري... تاريخ موجز» الذي نشرته «الجريدة» على التوالي، والذي سيصدر عن دار الساقي في لندن وبيروت، ينهي الكاتب حازم صاغية كتابه بالفصل الحادي والعشرين تحت عنوان «بعث بلا قيامة».

ويخلص فيه إلى الظروف التي ساعدت الأسد الابن في تحقيق انتصارات خارجية، إلا أن هذه الانتصارات أقامت على داخل مجوف ومفرغ، فرافق التخضم الكمي للبعثيين الذين وصل عددهم إلى مليوني شخص، انفتاح على الاقتصاد النيوليبرالي كاستعارة مشوهة للاقتصاد اللبناني، بينما الواقع الداخلي يئن من فقر متزايد وكرامة مهدورة. وبما أن الإصلاح الذي أطلقه الحزب في مؤتمره العاشر كان وعوداً كاذبة فإن ذلك جعل النظام يحصد عاصفة بعد زرعه للريح، عاصفة شكلت عنوانا لكذب حزب البعث العربي الاشتراكي، على حد تعبير الكاتب... وفيما يلي الجزء الأخير من الكتاب:

بعث بلا قيامة

تضافرت عوامل كثيرة في المنطقة والعالم لتمنح بشّار الأسد ونظامه رخصة حياة جديدة، فهما كانا أكبر المحظوظين من متغيّرات أنتجها اتّضاح النتائج البائسة لحرب العراق وتزايد التوتّر في فلسطين، وكمستثمرين في الخراب، تمكّنا من استيلاد وطنيّة سوريّة ذات طبيعة سلبيّة وضدّية، باعتماد ديناميات التخويف من الحصار الأميركي ومن الوطنيّة اللبنانية المناهضة للسياسة السورية والتي أخرجت جيشها من لبنان، لا سيما بعد ظهور بعض تعبيراتها الشوفينية ضد العمال السوريّين في لبنان، لكنّ العوائد الأسمن جاءت بها الفوضى العراقيّة التي أعقبت إسقاط صدّام حسين. هكذا ركزت دمشق عليها بوصفها البديل الوحيد أمام سوريّة في ما لو سقط نظامها، أما الحكمة وراء ذلك فإبقاء الأمور على حالها تجنباً للطوفان.

وفي عضّها على جرحها اللبنانيّ راحت دمشق تراكم انتصارات حقّقها لها حلفاؤها في انتظار مواسم المقايضات، ففي 2006 فازت حماس في الانتخابات الفلسطينيّة العامّة، كما عجز الإسرائيليّون عن تصفية حزب الله، وما لبثت بندقيّة الحزب الشيعيّ اللبنانيّ أن استولت على بيروت فيما كانت الحركة الأصوليّة والسنية الفلسطينيّة تخرج من ركام الحرب الإسرائيليّة عليها رافعة إشارة النصر.

وبدوره، بدأ الانفتاح الدولي بالرئيس الفرنسيّ نيكولا ساركوزي الذي أراد إحداث تغيير في نهج سلفه شيراك، ولعب دور في الشرق الأوسط ينوب به عن واشنطن مع نهاية عهد بوش وقبل قيام إدارة جديدة. هكذا زار سورية في أيلول (سبتمبر) 2008 ثم ثانية في بداية 2009، وراحت العواصم الأوروبية، الواحدة بعد الأخرى، تستقبل الأسد.

مغامرات هوجاء

كذلك انتقلت السياسة الأميركيّة، بعد وصول باراك أوباما الى الرئاسة، من المغامرات الهوجاء لبوش إلى الممالأة الساذجة، وعملاً بتوصيات بيكر– هاملتون التي دعت إلى "الانخراط" مع سورية زار، في 2009، عدد من أعضاء الكونغرس ومسؤولون في مجلس الأمن القوميّ والخارجية دمشق، إضافة إلى ثلاث زيارات للمبعوث الخاصّ لعمليّة السلام في الشرق الأوسط جورج ميتشل.

وفي شباط (فبراير) 2010 زارها نائب وزير الخارجيّة الأميركيّ للشؤون السياسيّة وليم بيرنز، وكان بذلك أرفع مسؤول أميركيّ يفد إليها منذ خمس سنوات، وبعد وقت قصير سُمّي روبرت فورد أوّل سفير لبلاده فيها منذ 2005.

وفضلاً عن طلب المساعدة السوريّة للتهدئة في العراق، كان من الحجج الأميركيّة الضمنيّة حيناً والمعلنة حيناً آخر أنّ من الممكن فصل سوري عن حليفتها إيران، المتّهمة بتطوير سلاح نوويّ، والاعتقاد بأنّ دخولها على خطّ مساعي التسوية بين الفلسطينيّين والإسرائيليين، سيعطي زخماً للعمليّة السلميّة، لكنْ بعد أقلّ من عشرة أيّام على تعيين فورد، استقبل بشّار الرئيس الإيرانيّ محمود أحمدي نجاد وأمين عام حزب الله حسن نصر الله في دمشق على نحو احتفاليّ واستفزازي.

وبحسب الحجّة التي ردّدها المتعاطفون مع دمشق، بقيت العقبة التي تعيق تطوير العلاقات السوريّة- الأميركيّة ما سبق أن أصدرته إدارة بوش من تشريعات، كان آخرها في 7 أيار (مايو) 2008 حين مُدّدت العقوبات على سورية لاتهامها ببناء مفاعل نوويّ لأغراض عسكريّة بالتعاون مع كوريا الشماليّة، فضلاً عن الاتّهامات التقليديّة لها في ما خصّ العراق ولبنان، وكان الطيران الحربيّ الإسرائيليّ قد دمّر في 6 أيلول (سبتمبر) 2007 منشأة عسكريّة سوريّة قرب مدينة دير الزور، وجاءت صورها دليلاً اعتمدته إدارة بوش على وجود مشروع نوويّ سوريّ.

التقارب السوري السعودي

وإقليميّاً، عادت العلاقات السورية- السعوديّة إلى التحسّن بعدما شارفت على الانهيار في 2005، من دون أن يطرأ أيّ تراجع في حرارة العلاقات السورية- الإيرانيّة، هكذا أمكن للقمّة العربيّة أن تنعقد في دمشق في آذار (مارس) 2008، وأن تُعدّ ناجحة بمعيار القمم العربيّة.

ثمّ زار الملك السعودي عبدالله دمشق في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2010 فكانت تلك زيارته الأولى منذ توليه العرش في 2005، وهذه الخطوة إنما نجمت، هي الأخرى، عن خرافة فصل سورية عن إيران وحملها على تنسيق جهودها في العراق مع السعوديين، وبفعل تأثير السعوديّة في رئيس الحكومة اللبنانيّة سعد الحريري قام الأخير، وهو يداري مرارته، بزيارة الأسد في كانون الأول (ديسمبر).

تقارب تركي سوري

وربّما كان أهمّ من ذلك كلّه التحوّل النوعي في العلاقات السورية- التركيّة، علماً أن الصحراء التي قطعتها تلك العلاقات شاسعة جدّاً ممّا كانت عليه في 1998، سنة التهديد بحرب تركيّة، فتتويجاً لتقارب بدأ في 2004، ألغت دمشق وأنقرة، في 2009، تأشيرات الدخول المتبادلة، ثمّ وقّعتا، مطالع 2010، مذكّرة تفاهم لإقامة سدّ على نهر العاصي يكون رمزاً للتعاون، بينما كانت السلع التركيّة تتدفّق جنوباً، واجدةً في سورية سوقاً متعطّشة لكلّ شيء، وعلى مدى السنوات القليلة الماضية كانت أنقرة، بقيادة "حزب العدالة والتنمية" الإسلاميّ، قد قدّمت إشارات متتالية على ابتعادها عن زملائها في "الناتو" واقترابها من مواقف "الممانعين" الإيرانيّين والعرب.

ازدياد قوة تحالف دمشق مع إيران

لكنّ هذا لم يغيّر شيئاً في السلوك الرسميّ السوري، ففي صيف 2009 اتّهم رئيس الحكومة العراقيّة نوري المالكي دمشق بالوقوف وراء أعمال إرهابيّة، وطالب بتشكيل محكمة دوليّة للنظر في ذلك. ورغم تصاعد الاتّهامات الغربيّة لطهران، وما رتّبته من مخاوف عربيّة، وخليجيّة تحديداً، مضى التحالف السوري– الإيراني يزداد قوّة، وما لبثت دمشق، بعد انتخابات 2010 في العراق، أن تكيّفت مع الطلب الإيراني في أن يتولّى المالكي رئاسة الحكومة، من دون أن تؤدّي الرعاية التركيّة لتفاوض سوري- إسرائيليّ غير مباشر إلى أيّة نتيجة، وفضلاً عن استمرار السياسة نفسها حيال لبنان، لم تتراجع دمشق شعرة واحدة في تأييدها الحارّ لحزب الله وحماس.

والسياسة هذه ما كان لها أن تستمرّ لولا إخفاق الديمقراطيّة في العراق ولبنان وإخفاق التسوية الفلسطينيّة- الإسرائيلية، معطوفاً على هذا كلّه جرعة من انتهازيّة الدول الغربيّة الكبرى في مرحلة احتضار البوشيّة.

داخل مجوّف

بيد أنّ تلك الانتصارات السوريّة بقيت خارجيّة واستمرّت تقيم على داخل مجوّف ومفرّغ، ففي سورية نفسها لم يتغيّر شيء يُذكر، وما بين منتصف 2006 و2008 مارست السلطة هجمة أمنيّة فسُجن أو أعيد إلى السجن عشرات الصحافيّين والكتّاب وناشطي حقوق الإنسان، كما حُجب 135 موقعاً إلكترونياً بينما اعتُمد نظام يقضي بجمع معلومات مفصلة عن مرتادي مقاهي الإنترنت، وأبشع من هذا، واستئنافاً للتقليد الذي أرساه رفعت الأسد في سجن تدمر، قاد ماهر الأسد حملة استهدفت سجن صيدنايا، فيما كانت تقارير المنظّمات الدوليّة تتلاحق في وصف الانتهاكات السوريّة المتمادية لحقوق الإنسان.

وقد استمرّ تفكيك المجتمع بتسليم رموز الفساد العائليّ والحزبيّ والعسكريّ مزيداً من المواقع الاقتصاديّة، لا سيّما منذ أعلن حزب البعث في مؤتمره العامّ العاشر في 2005، تبنّيه نظريّة "اقتصاد السوق الاجتماعيّ". ولئن ترافق ذلك مع السماح للمصارف التجاريّة بالعمل، ولو في ظلّ قيود بيروقراطيّة كابحة، كاد يمّحي دور النقابات في صياغة السياسات الاقتصاديّة لتحلّ نسب تضخّم فلكيّة محلّ اقتصاد كان راكداً وكان تضخّمه راكداً بالتالي.

وبدل أن يعوّض "اقتصاد السوق الاجتماعيّ" عن فقدان لبنان، انتهى الأمر به استعارة مشوّهة للاقتصاد اللبناني النيو ليبرالي وللحياة البيروتية الليبراليّة، وهذا في مجموعه عزز فقر الفقراء، وهو كبير أصلاً، بجرعات إضافيّة.

تضخم كمي للبعثيين

وغنيّ عن القول إنّ سورية البعث تملك أحد أرفع النسب العربيّة في تزايد السكان، وهناك قرابة نصف مليون عامل مهاجر من أبنائها إلى لبنان ينام بعضهم تحت الجسور وفي غرف البنايات غير المكتملة البناء، بينما يتراوح عدد القابعين تحت خطّ الفقر ما بين ثلث السكّان وربعهم، يتجمّع أكثرهم خارج دمشق وحلب كما في هوامشهما وأطرافهما.

لقد انعقد المؤتمر العاشر في ظلّ شعار "رؤية متجدّدة، فكر يتّسع للجميع"، وخرج بوعود إصلاحيّة كبرى لم يُنفّذ شيء منها، فبدا الأمر تكراراً موسّعاً لما حصل قبل عامين، حين وُزر الاقتصاديّ الإصلاحيّ عصام الزعيم لينتهي المطاف به نزيل أحد السجون.

ولئن غدا البعثيّون يعدّون قرابة مليونين، فقد تعايش تضخمهم الكمّي مع تواصل التنازلات أمام الوعي الإسلامي ثقافيّاً وتربويّاً، من دون أن يلغي هذا تدخّل الحكومة لضبط بعض الحالات النافرة شأن نقاب المعلّمات في المدارس والذي تعرّض للمنع في 2010.

الخبز المفقود والكرامة

وإلى الخبز المفقود والكرامة الفرديّة المهدورة والحرّية المأكولة، كان بشّار ابن أبيه في تلقّي الصفعات الوطنيّة الكبرى والتظاهر بأنّ شيئاً لم يكن، فقبل انسحاب 2005 المذلّ من لبنان، وفي صيف 2003 تحديداً، حلّقت الطائرات الحربيّة الإسرائيليّة فوق مقر إقامته الصيفيّ في اللاذقيّة، وما هي إلاّ أسابيع حتى هاجمت مقاتلات إسرائيليّة بلدة عين الصاحب التي تبعد عشرات الأميال عن العاصمة، بحجّة وجود معسكر لـ"الجهاد الإسلامي" هناك، وقبل أن يتبدّد الغموض الذي أحاط بتدمير الإسرائيليّين منشأة دير الزور، جاء الاغتيال الغامض، هو الآخر، لعماد مغنيّة محرجاً ومهيناً. وفوق هذا شكّل ذاك الاغتيال مادّة لتكهّنات كثيرة حول السلطة وصراعاتها، خصوصاً بعد اغتيال، لا يقلّ غموضاً، حلّ بالعميد محمّد سليمان في عرض البحر.

محاولة الهرب من الواقع

فإذا أضفنا الاحتدام المسكوت عنه للطائفية السنية– العلويّة، جاز القول إن سورية بشّار لم تخرج من التخبّط الذي تحايل عليه حافظ الأسد عبر مفاقمته في الخفاء والهرب منه إلى الإقليمي والخارجي.

هكذا، حين اندلعت الانتفاضات العربيّة، مطالع 2011، وكانت أولاها في تونس، لجأ بشار إلى حجّة تفيد بأنّ نظامه في مأمن لأنّه، في سياسته الخارجيّة والإقليمية، منسجم مع شعبه، وما كادت صحيفة "ول ستريت جورنال" الأميركية تنقل رأيه هذا، حتّى انفجرت انتفاضة في سورية نفسها، كانت مدينة درعا الجنوبيّة مهدها.

والواقع أنّ الانتفاضة المذكورة استقت أحد عناصر أهميّتها من تعطيلها المعادلة التي ازدهر تبعاً لها النظام الأسدي، ومن صمود بطوليّ حمل الخارجي، للمرة الأولى، على أن يذعن للداخلي، ذاك أنّ الشطارة الإقليميّة لم تعد عنصراً مقرّراً بالقياس إلى المسائل الملحّة التي رفعتها الانتفاضة وعبّرت عنها، وفي صدارتها مسألتا الحرّيّة والخبز.

لقد حصد ذاك النظام العاصفة بعد زرعه الريح، ولأنّه زرع الكثير من الريح يُقدّر أن تأتي العاصفة قويّة جدّاً تجرف في طريقها تلك اللعنة التي شكّلت عنواناً لكوارث وطنيّة متتالية وستاراً لكذب كثير: حزب البعث العربي الاشتراكي.

back to top