الرواية والخبر

نشر في 19-03-2019
آخر تحديث 19-03-2019 | 00:02




الخبر برأي الكاتب والصحافي المصري الكبير محمد حسنين هيكل وحدة أساسية في عملية التحليل السياسي، لأنَّ ما تسمعهُ في قالب خبري هو ما يؤسس لتحولات نوعية في حياة الشعوب.

لكن يبدو، من خلال متابعة كواليس الأعمال الروائية، أن أصحابها استفادوا من المادة الخبرية في «طبخة» مؤلفاتهم، ومن الواضح أنَّ عدداً من الروائيين قد عمِلوا في مجال الصحافة، وتراكمت لديهم الخبرةُ بدقائق هذه الصنعة.

ولعلَّ ارنست همنغواي وغابرييل غارسيا ماركيز في طليعة الروائيين الذين كانت درايتهم بالعمل الصحافي رافداً لمشروعهم الروائي، فإن المقالات والتقارير والحوارات التي اشتغل عليها «غابو»، حيث ضمها كتاب صدر بنسخته العربية بعنوان «بلا قيود» أبانت عن تمكن صاحب «خريف البطريرك» من مهنة المتاعب، كذلك بالنسبة لمؤلف «الشيخ والبحر»، فإنَّ رشاقة أسلوبه، وانسيابية سرده، وترتيب المادة الروائية والقصصية كل ذلك مطبوع بخلفيته الصحافية، وما اكتسبه في هذا المضمار، إذ قام همنغواي بتغطية وقائع الحرب الأهلية في إسبانيا، كما كان حاضراً في الجبهة إبان الحرب العالمية الأولى، أكثر من ذلك فإن ما أضافه همنغواي على صعيد تركيبة الجمل الروائية عرف بالأسلوب التلغرافي. وأصبحت نتاجاته الروائية والقصصية مرجعاً لمن يهمهُ فن سبك العبارات غير المثقلة بالحشو والفخامة المصطنعة.

ومن نافلة القول الإشارة إلى أنَّ ما يجمع بين الرواية والخبر الصحافي هو عنصر السرد، وإضافة إلى ذلك، فإنَّ المواد الخبرية تحتاج إلى عنصر التشويق والحبكة في الصياغة حتى لو كانت مبسطة.

المقصود بما قُدم آنفاً، ليس إثبات فكرة سابقة بأنَّ من اختار كتابة الرواية لابُدَّ أن يمرَّ بتجربة الصحافة، بقدر ما ان المراد هو تأكيد وجود تواصل فن الرواية مع مجالات أخرى خارج الأجناس الأدبية.

كثيراً ما ترى روايات مدموغة بعناوين ذات نكهة صحافية مثل "خبر الاختطاف" لماركيز، أو "يومَ قُتل الزعيم" لنجيب محفوظ، ويذكرُ أن الأخير قد نشر قصصاً بوليسية في صحيفة الخبر المصرية، و"مقتل بائع الكُتب" لسعد محمد رحيم على سبيل المثال لا الحصر.

وما يجدرُ بالذكر أنَّ مُصطلح "حكاية" لم يدل على السرد إلا لاحقاً بل كان مُرادفاً للخبر، حسب ما وردت الإشارة إلى ذلك في "معجم السرديات". عطفاً على ما سبق فإنَّ الصحافة قد تحولت إلى "ثيمة" أساسية في بعض الروايات، كما آثر إمبرتو إيكو هذا المنحى في آخر ما صدر له "العدد الصفر".

إلى هنا فإنَّ محورَ الحديث كان عن علاقة الرواية والصحافة على المستوى الشكلي، فماذا بشأن مؤثرات المحتويات الخبرية على مضامين العمل الروائي؟ هل تُفيد المَعلومات الواردة على صفحات الأخبار أو ما يتداولُ على منصات التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزة الكاتب الروائي؟

هل تصبحُ الصحافةُ مصدراً يستمد منه الروائي موضوعاته أو يلهم الخبر المنشور الكاتب بمادة روائية؟ بما أن الرواية محاكاة للحياة، وان الخبر رصدٌ لما يحدث في الواقع، لذلك فمن الطبيعي التشابكُ بين المادة الخبرية والثيمات الروائية.

إذ إن ما أدلى به الروائيون حول تجربتهم في الكتابة السردية يظهر أنَّ الخبر هو ركيزة أساسية في بعض أعمالهم، فضلا عن تبني نفر من الكتاب لخط التقرير الصحافي في تحبيك منجزه الروائي، وهذا ما يتمثلُ بالوضوح في رواية (دورا بروديه) للروائي الفرنسي باتريك موديانو يرد في مفتتحِ العمل الخبرُ المنشور في صحيفة (باريس سوار) بتاريخ نهاية ديسمبر 1941 عن شابةٍ مفقودة تُدعى دورا بروديه مع إيراد تفاصيل عن ملامحها وبنيتها الجسمانية. ومن ثمَّ يتكفلُ الراوي بالتقصي عن تفاصيل هذه الشخصية مُعتمداً على الأسلوب التوثيقي والنبش في السجلات إلى أنْ يكتشف أنَّ دورا بروديه من اليهود المهاجرين إلى فرنسا، حيث ولدت بمستشفى روتشيلد.

ومن الملاحظ أنَّ المؤلف يتدخلُ مباشرة في بعض المقاطع، ويتناولُ موديانو ما يجبُ أن يتمتعَ به الروائي من القدرة على تسلسل الأفكار، وترويض الذاكرة ما يمكنهُ من حدس استنباط الأحداث الماضية والمُستقبلية، مشيراً إلى أنَّ الخبر الذي ينطلقُ من الرواية قرأه سنة 1988، وتأخر في الشروع بكتابة العمل بإيحائه لمدة ثماني سنوات، فضلاً عن أن القصة الأساسية برواية دورا بروديه تتضمنُ أحداثاً متواقتة لهزيمة النازية في فرنسا كمقتل الروائي الألماني فريد لامب مؤلف (على مشارف الليل)، فضلا عن اختفاء الأشخاص الكثيرين في السنة التي ولد فيها موديانو أيضا، كما يلمح صاحب (شارع الحوانيت المُعَتمة) إلى هروبه بعد 15 عاماً على استعادة فرنسا حريتها في تضاعيف مُؤَلفه.

بالاختصار ما ينبغي قوله عن هذا العمل هو هيمنة تقنية الكتابة الخبرية والتقريرية على خيطه السردي، أضف إلى كل ما أسلف ذكره أنَّ ما حدا بالروائي المؤسس غوستاف فلوبير لكتابة رائعته (مدام بوفاري) هو الخبر المنشور عن انتحار السيدة ديلمار في سنة 1848، بعدما انفض عنها العشاق والمعجبون وحاصرتها المشاكل. وكان جوهر المشكلة في تحويل هذا الخبر إلى العمل الروائي بالنسبة لفلوبير هو معارضة أمه وخوفها على مقاضاة ابنها، كما يشيرُ إلى ذلك الكاتب العراقي (علي حسين) في (في صحبة الكُتب)، أخيراً يجدُ فلوبير الحل في استبدال اسم ديلمار بمدام بوفاري.

بدوره، رأى نجيب محفوظ في قصة اللص الذي أشاع الخوف بين سكان القاهرة، وانشغلت به الصحف مادةً مُفعمة بالدراما، وبالتالي وظفها لكتابة رواية (اللص والكلاب)، التي تُعد بداية لمرحلة جديدة في مسيرة صاحبها. والأمر لا يختلف لدى الكاتبة الفرنسية من أصول مغربية (ليلى سليماني)، فالأخيرة استلهمت فكرة روايتها المعنونة بـ(أغنية هادئة)، التي حازت جائزة الغونكور الفرنسية مما قرأته في مجلة (Paris Match) حول جريمة رهيبة وقعت في مانهاتن بنيويورك، إذ أقدمت مربية على قتل طفلين*. من المعلوم أن رواية سليماني تتكئ على قصةٍ مماثلة لما ورد في السياق الخبري. فإن الشخصية الرئيسية لويز هي تفجرُ الحدث بقتل ميلا وآدم، وذلك كان أمراً صادماً، لأنَّ ما لمسه والدا الطفلين في شخصية المربية ظاهريا هو الحب والحنان. والأهم في هذا الإطار أن الدارسين في مجال الأدب توصلوا نتيجة بحثهم وتعقيبهم إلى أنَّ رواية (لوليتا) المثيرة لكاتبها نابوكوف ليست وليدة الخيال، إنَّما المؤلفُ كان يتابعُ أخبار الجرائم والاعتداء الجنسي بالاهتمام في الصحفِ إلى أنْ صادف حادثة الفتاة سالي هورنر التي اعتقلها رجلُ أربعيني متلبسةً بسرقة دفترٍ، وأوهمها بأنَّه من مكتب التحقيقات الفدرالية، ليجبرها على البقاء معه عامين كاملين عشيقةً، ويعترفُ نابوكوف بأنَّ لوليتا ما هي إلا الاعترافات التي كتبها هامبرت في سجنه**. ومن جانبها، تكشفُ الروائية المصرية رشا عدلي أنَّ خبر قتل القناص الأميركي كريس كايل في 2013 قادها لقراءة سيرة الجندي الأميركي، واستوحت أحداث روايتها الموسومة بـ(شواطئ الرحيل) مما تجمعه عن حياة كريس. كما أنَّ سقوط مدينة الموصل في 2014 بيد عناصر تنظيم "داعش" يدفع الكاتب العراقي خضير فليح زيدي لكتابة روايته (فاليوم عشرة)، ولا تكتفي الروائية السورية مها حسن بتضفير الخبر في متن رواية (عمتِ صباحا أيتها الحرب) بل تحيل القارئ إلى روابط الفيديوهات والمواقع الخبرية، ما يعني تفاعل نصها الروائي مع الحدث الراهن. قصارى القول فيما يتعلق بعلاقة الرواية بالخبر أنَّ الروائي يجبُ أن يكون لديه حس صحافي، وينتبه إلى ما يضخُ في المنابر، ويعرضُ في الجرائد والصحف.

*ينظر إلى مقابلة مترجمة مع ليلى سليماني في موقع (إلترا صوت)

**ينظر إلى (غوايات القراءة) علي حسين صدر 2019

back to top