«الأفغاني»... وكراهية «الدول النصرانية»!

نشر في 07-02-2019
آخر تحديث 07-02-2019 | 00:10
 خليل علي حيدر "كان جمال الدين الأفغاني إيرانيا في طبعه وتفكيره وتصرفاته رغم كثرة أسفاره"، يقول المترجمان لكتاب سيرته الذي كتبه ابن أخته: "وكانت تدفعه دائما رغبة مُلحّة إلى التفكير في أمر إيران، وقد تحمل جمال الدين كثيراً من العناء من أجل إيران، ومحاولة جعلها المركز الرئيسي للجامعة الإسلامية. غير أن جمال الدين لم يستطع السير بدعوته في إيران، أو لعله يئس من تحقيق أهدافه فيها، ووجد أن بلدته "أسد آباد" أضيق من أن يقيم فيها، وأن الظروف في إيران لا تمكنه من القيام بأي نشاط، فدفعه هذا إلى حب الأسفار، وزيارة البلاد الإسلامية، ونشر دعوته فيها".

ويروي ابن أخته أن جمال الدين زارهم في "أسد آباد" بعد عودته من الحج، قاصداً الذهاب إلى مدينة "مشهد" الإيرانية لزيارة ضريح "الإمام علي الرضا"، إمام الشيعة الثامن، فناشده أهله أن يعيش معهم ويبقى في بلدته "أسد آباد" بإيران، فاعتذر جمال الدين عن قبول الطلب قائلا "إنني كصقر محلق يرى فضاء هذا العالم الفسيح ضيقا لطيرانه"- مَنْ مانَنَد شاهبازي هَسْم كه فضاي عالم با إين وسْعتْ براي طيران أو تنك باشد".

وكان الأفغاني يبحث عن هوية تساعده في دخول هذه الدول الإسلامية السنية المذهب التي يزورها، فوجد ذلك في الانتساب لأفغانستان، حيث ساعده ذلك في جعله بعيداً عن متناول ممثلي إيران وقناصلها في الخارج، كما حمت هذه الهوية أهله من إيذاء الحكومة داخل إيران، "ولو أن هذا لم يغن أسرة جمال الدين فتيلاً ولم يبعد عنها الشر بعد اتهام جمال الدين بالاشتراك في تدبير قتل ناصر الدين شاه، وهذا أيضا دليل قوي على أن جمال الدين إيراني، وإلا ما نُكِّل بأسرته في أسد آباد بعد اتهامه هو". (ص19).

من جانب ثان "اعترف السلطان عبدالحميد نفسه بأن السيد إيراني شيعي بعد أن تأكد من ذلك، فقد وصلته عريضة من أهل "أسد آباد" بهمدان، تقرر أن جمال الدين منها، وأنه ينتمي إلى إحدى الأسر المقيمة فيها، وكانت هذه العريضة كافية لتغيير رأي السلطان فيه".

ومما يعتبره المترجمان للكتاب دليلا على انتماء جمال الدين إلى إيران، "تمجيدة للإيرانيين وإشادته بذكائهم، رغم ما لاقاه من الحكومة الإيرانية والملك الإيراني من اضطهاد وعنت". ومن الأدلة، يضيفان، على "إصلاح إيران" كلما زارها، بل "تشجيعه على قتل "ناصر الدين شاه" لما يئس من إصلاحها اعتقادا منه بأنه- أي الشاه- أصل الداء وسبب البلاء".

وكان الأفغاني يقول دائما، كما جاء في مقدمة المترجِمَين، "إن في شعب إيران حيوية كامنة لابد أن تظهر في يوم من الأيام، وإن في أفراده ذكاء خارقا يؤهله للصعود في معارج التقدم والكمال"، غير أن الأفغاني، كما يتضح من مجموعة كتاباته في "المقالات الجمالية" وما كتب عنها كان، "لا يرجو خيرا من إيران ما دام نصر الدين شاه القاجاري على رأسها، وكان الشاه المذكور يعلم هذا حق العلم، فكان يخاف السيد، ويتضايق من أحاديثه وأفكاره، ويتميز غيظا وغضبا من جرأته وصراحته"، وقد جاء في "المقالات الجمالية" عن التآمر على حياة الشاه ما يلي: "ولما ألقى جمال الدين عصا الترحال- في تركيا- بعد زيارته الأخيرة لإيران صمم على البقاء في الآستانة، واجتمع حوله مريدون، وكانوا من الإيرانيين، ثم انضم إليه رجل هارب من إيران يدعى "ميرزا رضا الكرماني"، وكان يعرفه من قبل فلما سأله عن سبب فراره قال له: كنت أشتغل بالتجارة في طهران، فاشترى كامران ميرزا أحد أنجال السلطان ناصر الدين مني بضاعة، وطلب مني أن أذهب إلى داره لقبض ثمنها، ولكنه أخذ يماطلني، ويحدد لي مواعيد مختلفة، كانت تنتهي دون جدوى حتى مضت ثلاث سنوات، فطلبت منه أن يعطيني البضاعة أو يدفع نصف ثمنها، ولكنه رفض ثم لم يلبث أن أمر بضربي وحبسي، غير أنني دبرت وسيلة للفرار من السجن".

ويقول المترجمان إن الأفغاني انتقد ساخرا فكرة "الكرماني" عن اغتيال الأمير القاجاري، وأشار عليه بشكل غير مباشر بأن يقتل الشاه نفسه قائلا له، "ما الفائدة من قطع الغصن مع بقاء الأصل؟".

كما أدى جمال الدين كذلك دوراً في إلغاء امتياز التبغ الذي منحه ناصر الدين شاه لإحدى الشركات الأجنبية، وذهب لمقابلة المرجع الشيعي "ميرزا حسين الشيرازي" في سامراء، ويقول المترجمان إن "الأفغاني" كتب للمرجع "الشيرازي" خطابا فيه عدم أهلية الشاه لحكم بلاد المسلمين، "وهو يبدأ بتعابير خاصة بالشيعة- في مخاطبة رجال الدين منهم، مما يدل على خبرة جمال الدين وإتقانه للمصطلحات الشيعية الإيرانية". ويقول المترجمان إن هذه المصطلحات "لم تكن معروفة لدى غير الإيرانيين من المسلمين".

ويقول المترجمان إن الميرزا رضا "تأثر بكلام جمال الدين غاية التأثر، وصمم على العودة إلى إيران، وقتل ناصر الدين شاه، واستئصال شجرة الظلم من أساسها مهما كلفه هذا الأمر. ولم يلبث أن رجع خلسة إلى إيران، ثم اغتال الشاه عام 1313هـ- 1896".

وقد أدى هذا الاغتيال، يقولان، "إلى كشف حقيقة جمال الدين لدى السلطان عبدالحميد فأيقن أنه إيراني المولد والمنشأ شيعي العقيدة والمذهب". (ص25). كان الخوف من الاغتيالات والحذر من المذاهب والأقليات- كما هي الحال في أماكن كثيرة- واسع الانتشار في دول عدة وبخاصة الإمبراطورية الروسية القيصرية، وإمبراطورية النمسا والمجر، ولا شك أن مخاوف السلطان عبدالحميد السياسية والدينية والشخصية كانت ربما أضعاف قلق الآخرين. وقد ارتقى عرش سلسلة القاجار في إيران بعد اغتيال ناصر الدين شاه "مظهر الدين شاه" الذي حكم ما بين 1896 و1907 حيث مات ميتة طبيعية، بعد أن تفجرت الثورة الدستورية أو "المشروطية" 1905-1911 في عهده. وتحركت مع العهد الجديد الدبلوماسية الإيرانية في الآستانة ضد جمال الدين الأفغاني، إثر اغتيال الملك "ناصر الدين شاه" وما تبين للسلطات العثمانية والإيرانية من أمور.

وقد كان كشف حقيقة جمال الدين عند السلطان عبدالحميد، يقول المترجمان، "ضربة قاضية وجهها مظفر الدين شاه الى جمال الدين، وكانت بوثيقة ذكرت فيها الدلائل القاطعة التي لا يمكن إنكارها، وسلمت هذه الوثيقة بواسطة "علاء المُلك" سفير إيران في تركيا، فظهر للسلطان أن جمال الدين إيراني شيعي يختفي في ثياب الأفغانيين، ويتخذ المذهب السني ستارا يحتمي به، فدبر وسيلة للتخلص منه بدس السم له، وكانت هذه هي طريقة السلاطين العثمانيين للتخلص ممن لا يرغبون فيهم". (ص25). ويقف المترجمان عند نقطة أخيرة تثبت فيما يريان أصل "الأفغاني" ومذهبه، فقد عرف عنه، يقولان، أنه كان له خادم اسمه "أبو تراب"، كان ملازما له أينما ذهب. ويضيفان: "واسم "أبو تراب" لا يمكن أن يوجد في غير إيران، فهو من الأسماء التي يتسمى بها الإيرانيون دون غيرهم، لأنه إحدى الكنى والألقاب الخاصة بعلي بن أبي طالب".

ويقولان: "وقد وثق جمال الدين صلته بهذا الخادم، بحيث جعله يلازمه في جميع أسفاره، كما جعله موضعاً لأسراره الخاصة.

وهذا ما يرجح كونه إيرانيا شيعيا متعصبا حتى في استخدام الخدم، ويشبه هذا أيضا توقيعه باسم "جمال الدين الحسيني"، وهو يرجح أنه شيعي إيراني، فذكر لقب "الحسيني" له معنى خاص عند الإيرانيين من الشيعة لتعلقهم الشديد بآل البيت، ولاسيما الحسين بن علي الذي كان جمال الدين يعد نفسه من نسله". (ص26).

ومما يدعم آراء المترجِمَين بخصوص انتماء الأفغاني للمذهب الشيعي، وهي نقطة لم يشيرا إليها، حرص الأفغاني على تعريف الشيخ محمد عبده بكتاب "نهج البلاغة" ودعوته إلى نشر الكتاب في العالم العربي، وهو كتاب يجمع خطب وأقوال الإمام علي بن أبي طالب، وله مكانة رفيعة بين النصوص والمراجع الشيعية، رغم أن لأهل السنة ملاحظاتهم وتحفظاتهم على الكتاب.

(انظر كتاب سيد جمال الدين أسد آبادي بقلم "مدرس جهاد دهي" بالفارسية، طبعة طهران 1343هـ.ش، 1964، ص161).

ومما يصعب فهمه كما لاحظ ربما كثير من القراء في هذه المقالات التي ننشرها، تحامل المترجِمَين د.نشأت ود.حسين على الشيعة والإيرانيين، والتشكيك في كل مقاصدهما، رغم أن الكتاب الذي ترجماه عن ابن أخت الأفغاني صدر في القاهرة عام 1957، قبل ثورة إيران الإسلامية سنة 1979، وما أثارته سياسات إيران والجمهورية الإسلامية من لغط مذهبي وسياسي بعد ذلك، فما الذي دفعهما نحو هذا؟

وقد يطرح سؤال آخر نفسه: هل كانت ملامح الأفغاني الجسدية... إيرانية أم أفغانية؟ لا أعرف على وجه التحديد الفرق بينهما بالتفصيل، ويقول بعض من عاشر الأفغاني، كما جاء في الكتاب المترجم عن ابن أخته: "كان المرحوم السيد جمال الدين ذا قامة قصيرة مناسبة مع رأس كبيرة نسبيا، ويدين صغيرتين وقدمين غير عريضين، وكان قمحي اللون، دموي المزاج، وكانت حمرة الدم تبدو في وجهه إذا انحنى. وكان له ذراعان نحيلان وساقان رقيقان للغاية. وكان متين البنيان، ذا صدر عريض مع بروز قليل في البطن وعينين سوداوين.

وكانت له شخصية جذابة، تفتن قلوب زائريه، فلا يمل أحد من الاستماع إلى أحاديثه التي كان يتحدث بها في كل شأن.

وقد اتفق أن حضرت في صحبته عدة مرات، وكان يتكلم معي- أثناءها- أربع ساعات في كل جلسة، ولم أشعر بأي ملل فيها، بل كنت أفضل الإصغاء إليه، والجلوس معه، على كل مجالس الأنس والتسلية". (ص160).

كان الأفغاني أحد من زرع شمولية فهم الإسلام السياسي في أذهان معاصريه ومن بعدهم، فهو دين يتجاوز المسلمين إلى غيرهم وكل البشرية، و"كان يرى أن الإسلام- في جميع المسائل الجوهرية- دين عام شامل للعالم أجمع، قادر تمام القدرة بما فيه من قوة روحية على ملاءمة الظروف المتغيرة في كل جيل".

وكان من خاصة مزاج الرجل، يقول بعض الباحثين، "أن الوسائل التي تخيرها لتحقيق غاياته، كانت وسائل الثورة السياسية، فقد خيل إليه أنها أسرع الطرق وأفضلها في تحرير الشعوب الإسلامية، أما وسائل الإصلاح التدريجي والتعليم، فكان يرى أنها بطيئة جدا، غير محققة العاقبة". ويعلق الشيخ محمود أبو رية في الهامش بأن وسائل الإصلاح التدريجي والتعليم، "هي مذهب تلميذه الأكبر محمد عبده".

(جمال الدين الأفغاني، ص49).

وزرع الأفغاني في حياة الإسلاميين من بعده كراهية عميقة لما أسماه "الدول النصرانية" والحضارة الغربية.

ويلخص كتاب "حاضر العالم الإسلامي" للكاتب "لوثروب استودادر"، تعاليم جمال الدين الأفغاني بأن "العالم النصراني على اختلاف أممه وشعوبه عرقا وجنسية، هو عدو مقاوم مناهض للشرق على العموم، وللإسلام على الخصوص، فجميع الدول النصرانية متحدة معا على دك الممالك الإسلامية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. إن العالم الإسلامي يجب عليه أن يتحد اتحاداً دفاعيا عاما وثيق العرى، وللوصول إلى هذه الغاية الكبرى، إنما يجب عليه اكتناه أسباب تقدم الغرب والوقوف على تفوقه وقدرته". غير أن الأفغاني صرف معظم جهده في القسم الأول والتحذير من "الدول النصرانية"، ولم يقدم الكثير في القسم الثاني، عن كيفية تبني أسباب تقدم الغرب!

سنرى في مقال قادم رأياً معاكساً في أصل الأفغاني ومذهبه، وبأنه كان من مواليد أفغانستان، سني المذهب وعلى المذهب الحنفي!

back to top