العذر «السموحة»!

نشر في 29-11-2018
آخر تحديث 29-11-2018 | 00:04
 مسفر الدوسري العذر، هل هو محاولة للمسح على قلوبنا، أم أنه محاولة لمسح عقولنا؟! هل هو وسيلة لانتزاع الشوك من مشاعرنا النازفة، أم أنه عملية تنظيف لمسرح الجرح وتزييف الأدلة وتضليل عدالة الثأر؟! هل هو ضماد لخذلان أصاب شيئا داخلنا بالعطب، أم تأصيل للخذلان وتأكيد للعطب؟!

إن العذر الذي يبرر به آخر إساءته لنا، بغض النظر عما إذا كان قويا متماسكا كحجر صلد، أم ضعيفا متهاويا ككومة رمل على حافة شاطئ، برأيي هو إما أن يكون بدافع الاعتذار المنطوي على شيء من الندم، أو أن يكون مراوغة يحركها الجبن والخوف من المواجهة. في الأولى نية حسنة تدفع محاولة يائسة لصنع ضماد لألم أصابنا نتيجة خطأ غير مقصود، وفي الثانية نية سيئة تحرض محاولة بائسة أساسها الخوف للتبرؤ من دمنا النازف عمدا وعن سابق قصد، ونحن اعتدنا أن نخضع المحاولتين في كلا العذرين للتدقيق والتمحيص، وإيجاد النسُق المنطقية التي تجيزها عقولنا، وهز أغصانها، ليتساقط الورق اليابس منها لتعريتها قبل أن نصدر حكما حيالها. قد يكون العذر واهناً، لكن النية صالحة وصادقة تهدف إلى تخفيف الألم وبيان مشاعر الأسف. وقد يكون العذر قويا متماسك الأركان ومنطقيا محصنا بكذبة تلبس رداء الصدق، تخفيا ومخافة من ردة الفعل. لا العذر الضعيف حجة لتسرعنا بالحكم على إدانة النوايا، كما أن العذر السمين ليس سببا كافيا للحكم ببراءتها. قد لا نقبل عذرا هزيلا أراد صاحبه به أن يهوِّن علينا صادقاً وطأة خطئه، وأن يرفع قدر استطاعته شيئا من ثقل الأسى، حتى إن كان هو المتسبب به، أو عذرا باهتا يساق لنا خجلاً من الفعل، بعد أن أدرك فاعله حجم الأذى الذي تسبب فيه لنا، غير قاصد ولا عامد، وقد يعجبنا عذر كامل الدسم يدفعنا للصفح، فيما يخفي صاحبه خنجره الذي استخدمه أول مرة خلف ظهره، على أمل أن تتسنى له فرصة ثانية لاستخدامه مرة أخرى في محاولة قد تكتب لها النجاح.

علينا ألا نأخذ العذر دائما على محمل العقل، بل على محمل القلب، وألا نمعن في استدراجه للوقوع في الفخ، لنقوده مخفورا إلى مختبرات المنطق لنحلل دمه وأنسجة خلاياه وتفتيش ما يخبئه تحت ثيابه، وألا نبذل جهدا عقليا مبالغا فيه لكشف زيفه، فالآلية التي يعمل بها العقل تجريدية موضوعية يحكمها المنطق الذي يزعم أنه ينبني على "طرق الاستدلال السليم" للوصول إلى نتيجة ليس بها عوج. والنتيجة المراد الوصول إليها عند فحص العذر وتمحيصه هي إما الصفح أو عكسه. وبما أن الصفح شعور ينبع من القلب، فلا أظن أن منطق العقل طريقنا السليم للاستدلال عليه. فلنحاول أن نصفح، بغض النظر عن منطقية العذر وقوة حجته، فمن لا يملك عذرا منطقيا وحجة قوية تبرر لنا سوء فعله ويقدم تحت وطأة الخجل عذرا متهاويا فلنصفح عنه، ويكفيه ذلاً ندمه أو خجله، ومن يحْبُك لنا عذرا لا يقبل الدحض بدافع الخوف فلنصفح عنه أيضاً، ويكفي صاحبه ذلاً جُبنه، ولنخرج نحن في الحالين أكرمين أعزاء.

back to top