النمو والتنمية

نشر في 07-11-2018
آخر تحديث 07-11-2018 | 00:10
النمو نوعان: طبيعي كالزيادة السكانية، وممنهج كبناء المدارس والمستشفيات، وما يهمنا هنا هو النمو الممنهج المدروس، فالنمو شرط مسبق وملازم لإحداث تنمية حقيقية، لكن الهدف الأساسي يجب أن يكون دائماً التنمية، وأن ينظر إلى عملية النمو كعامل ميسِّر وتحضيري وممكِّن لها.
 السفير فيصل راشد الغيص النمو GROWTH والتنمية DEVELOPMENT مصطلحان متلازمان في علم الاقتصاد، كلاهما ضروري لرقي البلدان وشعوبها، إلا أن المشكلة تكمن في الخلط بين هذين المفهومين، فكثيراً ما نجد المسؤولين يستخدمون أحدهما محل الآخر بدون تمييز.

النمو نوعان: طبيعي كالزيادة السكانية، وممنهج كبناء المدارس والمستشفيات، وما يهمنا هنا هو النمو الممنهج المدروس، فالنمو شرط مسبق وملازم لإحداث تنمية حقيقية، لكن الهدف الأساسي يجب أن يكون دائماً التنمية، وأن ينظر إلى عملية النمو كعامل ميسِّر وتحضيري وممكِّن لها، فالنمو- كبناء مشاريع البيئة التحتية والمرافق والمشاريع الكبرى مثل محطات الطاقة والمصانع- مسألة كميّة يمكن قياسها بالأرقام والمبالغ والمساحات، بينما الحال ليست كذلك دائما بالنسبة إلى التنمية، المتمثلة في الخطط والإجراءات التي تتبناها الدولة لتسهيل وتطوير وترقية حياة مواطنيها وزيادة رفاهيتهم، بل إنها مسألة حسية أكثر منها كمية، تشعر بها وتستشفها من خلال نوع ومستوى الحياة والتعاملات اليومية للبشر.

ويوصف بلدٌ ما بأنه نامٍ أو متطور أو متقدم ليس بحجم منشآته العمراينة الإسمنتية، بل بمعايير أخرى واضحة تطول قائمتها، وأهمها: وجود نظام حكم ديمقراطي عادل ومستقر، آمن مستتب، نظام قضائي مستقل ونزيه وعادل وناجز، برلمان معافى يعمل أعضاؤه حسبما تمليه عليهم المبادئ ومصلحة الوطن لا حسب مصالحهم الشخصية والتكسبات السياسية والمالية والحسابات الانتخابية الشعبوية، غياب الفساد والرشوة، ضمان الحريات الأساسية للفرد ولوسائل الإعلام، أن يؤدي كل مواطن عملاً حقيقياً مقابل أجره وغياب سياسة التدليل والاستهتار سواء في نطاق العمل أو في الحياة العامة، تطبيق مبدأ المحاسبة والعقاب والثواب، غياب الوساطة والمحسوبية، الانتماء إلى الوطن بدل القبيلة أو الحزب، الكفاءة المهنية وغياب التسيب الوظيفي، سياسة سكنية رشيدة تحمي البلاد من طمس هويتها ومن انفلات مقدراتها ومفاصلها من أيدي أبنائها، تعامل البشر فيما بينهم بالأدب والتواضع بدل الوقاحة والخشونة والتحدي والأنانية، الانضباط وسيادة القانون، التسامح الديني والسياسي والثقافي وبكل أشكاله، خدمات تعليمية وصحية واجتماعية وإسكانية حديثة ورفيعة المستوى، نظام مروري جيد سواء من حيث الازدحام أو أخلاق القيادة، القضاء على الروتين واختصار وقت المواطن لإنجاز معاملاته لدى القطاع العام والخاص، وتطبيق نظام الموظف الشامل، وإنجاز المعاملات بالإنترنت بقدر المستطاع.

كل ذلك من شأنه أن يحقق أمرا في غاية الأهمية، وهو شعور المواطن بالانتماء الحقيقي والوجداني لوطنه واستعداده للتضحية من أجله، وشعوره بالتفاؤل حول مستقبل الوطن بالاطمئنان على مستقبل أبنائه وأحفاده.

إن النمو شرط أساسي لتحقيق التنمية: فلا يمكنك على سبيل المثال توفير خدمات صحية كافية بدون بناء مستشفيات جديدة أو معالجة مشكلة الازدحام المروري بدون تشييد مزيد من الطرق، إلا أن تقرير المشاريع الجديدة يجب أن يتم في ضوء ما يلزم منها لتحقيق عملية- إن لم نقل خطة- التنمية، لا أن يتم بمعزل عنها، فيتحول إلى إهدار للمال العام وإنفاق عشوائي، أو مناقصات تنفيعية.

وأخطر ظاهرة هي ظاهرة مشاريع التباهي والتفاخر أو ما يعرف بمشاريع الفيلة البيضاء- أي مشاريع الزينة- كأن تصر على أن يكون عندك أعلى برج أو أطول جسر في العالم، أو كأن تشتري وتكدس مصانع ضخمة لا تستطيع تشغيلها وإدارتها، كما فعلت بعض بلدان العالم الثالث في نشوة استقلالها.

كذلك يوجد ترابط التزامي بين المشاريع الإنمائية والسياسات الاجتماعية، على سبيل المثال: حجم ومدى التوسع في بناء طرق جديدة لتخفيف الازدحام المروري يجب أن يكون مبنياً على توقعات النمو السكاني المستقبلي لا الحالي فقط. فمهما زادت الدولة طرقاتها وجسورها بدون سياسة مدروسة للحد من الزيادة السكانية فإنها ستظل تنفق وتلهث دون أن تستطيع مواكبة الزيادة في أعداد السكان من مواطنين ووافدين، والأهم من هذا أن يكون المسؤولون عن كل هذه الأمور بمختلف مستوياتهم الوظيفية من المتخصصين في التنمية، الدارسين والمتمرسين في عملها ونظرياتها وتطبيقاتها، والضليعين في علم التخطيط الإنمائي.

ولا يكفي وضع خطة أو خطط جيدة للتنمية بغض النظر عن مدتها أو مددها الزمنية، بل من المهم جداً أيضا مدى الجدية في تنفيذها. في سنة 1984 عكفت وزارة التخطيط على وضع خطة التنمية الخمسية 1985-1990، وكان المغفور له الشيخ سعد العبدالله رئيساً للوزراء والدكتور عبدالرحمن العوضي وزيراً للصحة ووزيراً للتخطيط، وكان مقرر الخطة وكيل وزارة التخطيط، الدكتور عبدالهادي العوضي.

كانت وزارة التخطيط دائماً هي من يرسم خطة التنمية مستعينة بمن ترغب من الجهات الأخرى حسبما تراه ضرورياً ومناسباً، لكن الشيخ سعد وجه د.عبدالرحمن العوضي- بصفته الوزير المختص آنذاك- باتباع أسلوب جديد في وضع الخطة القادمة لا أظنه يتم تطبيقها سوى في البلدان المتقدمة. فلقد رأى من الضروري والأفضل إشراك كل أجهزة الدولة ومن يلزم من مؤسسات القطاع الخاص في وضع الخطة بدل أن تفعل ذلك وزارة التخطيط وحدها بشكل مركزي، لذلك أمر بتشكيل جهاز لوضع الخطة يتكون من لجنة عامة تشترك فيها كل مؤسسات القطاعين الحكومي والخاص التي تتم تسميتها لمناقشة المسائل العامة والخطوط العريضة للخطة، وهي برئاسة وزير التخطيط يساعده المقرر العام للخطة، وتنبثق عن هذه اللجنة لجان فرعية قطاعية تتوزع عليها المؤسسات المذكورة كل حسب اختصاصه، فكانت هناك على سبيل المثال لجنة اقتصادية ولجنة اجتماعية ولجنة الأمن والدفاع... إلخ.

وتشرفت حينها بعضوية هذه اللجنة، حيث كنت عضواً في الفريق المساهم من وزارة الخارجية برئاسة سعادة الأخ راشد الراشد، وكيل وزارة الخارجية آنذاك، وساهم فريقنا في لجنة الأمن والدفاع والسياسة الخارجية، علاوة على اللجنة العامة بطبيعة الحال.

أوردت هذه المقدمة والخلفية التاريخية لكي أوضح حجم المشكلة إذا لم يتم الالتزام بتنفيذ أهداف خطة التنمية المرسومة، فعند التطرق لمشكلة التركيبة السكانية، أفادت وزارة التخطيط بأن نسبة المواطنين إلى غيرهم بلغت 40 إلى 60 في المئة.

فوُضع كأحد الأهداف الرئيسة للخطة أن تلتزم الدولة بتصحيح هذا الوضع بنسبة 2% سنويا، أي 10% على مدى السنوات الخمس للخطة، بحيث نصل إلى مرحلة التعادل بحلول نهاية المدة، لقد تم وضع هذه الخطة- كسابقاتها ولاحقاتها- في الأدراج، فبدلاً من أن نصل إلى مرحلة التعادل في سنة 1990 نجد النسبة في سنة 2018 وصلت إلى 30% إلى 70% على أحسن تقدير.

النمو شرط لتحقيق التنمية فلا يمكنك مثلاً توفير خدمات صحية كافية بدون بناء مستشفيات جديدة
back to top