معضلة «الأمن الروحي»

نشر في 09-09-2018
آخر تحديث 09-09-2018 | 00:09
 ياسر عبد العزيز أمس الأول الجمعة، نشرت "الغارديان" تقريراً مهماً بعنوان: "الكنيسة في أزمة"؛ وهو تقرير خطير بكل تأكيد، إذ يشير، استناداً إلى نتائج "مسح التوجهات الاجتماعية في بريطانيا" British Social Attitudes Survey، إلى أن 2 في المئة فقط من البالغين الشباب ينتمون إلى الكنيسة الإنجليكانية (كنيسة الدولة ومرتكزها الروحي)، وأن سبعة من كل عشرة من البالغين تحت سن 24 يقولون إنهم "بلا دين".

ليست تلك هي كل الأخبار المهمة؛ فقد واصل عدد المتدينين إجمالاً تراجعه، وفق نتائج هذا المسح الموثوق، لتبلغ نسبة السكان الذين يقولون إنهم "بلا دين" 52 في المئة من المجموع الكلي، في نهاية عام 2017، مقارنة بـ41 في المئة عام 2002.

لو كان الفيلسوف الألماني فريدريك هيغل (1770- 1831) حياً الآن لشعر بأزمة بكل تأكيد؛ إذ كان هو أحد المنظرين العظام لفكرة الدولة، وقد اعتبرها "أرقى تنظيم وصل إليه الإنسان، لكونها تجسيداً لروح الشعب وأخلاقه الاجتماعية وعاداته وتقاليده".

لطالما وجه منظرو "الدولة" الانتقادات إلى هيغل، وكانت أبرز تلك الانتقادات من جانب الماركسيين والليبراليين بكل تأكيد، خصوصاً لنزعته "المثالية"، التي جعلته يقول إن "الدولة هي الروح وقد تموضعت"، أو إنها "قوة العقل المحقق لذاته"، وصولاً إلى أنها "اكتمال مسيرة الإله على الأرض"، في كتبه التي كان أشهرها "أصول فلسفة الحق".

جاءت معظم الانتقادات لهيغل من حيث كونه ركز مقاربته على الجانب الروحي والأخلاقي، بينما راحت المدارس الأخرى تتحدث عن الأرض، والسلطة، والشعب المُمَيز المتجانس، والسيادة، ثم ذهب آخرون إلى الحديث عن الدستور، أو "العقد الاجتماعي"، عندما ظهرت بوادر الدولة الحديثة، في الفترة بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر في أوروبا.

سيجد الهيغليون صعوبة إذن عندما يحاولون تفسير حالة الدولة البريطانية التي لا تتراجع فيها مناعة الدولة ولا استقلالها ولا تماسكها الوطني ولا ازدهارها، في وقت يتراجع فيه توافق القوة الغالبة بين السكان دينياً وروحياً، عبر الابتعاد المنهجي المتواتر عن "الإيمان" بالمعتقد الجامع (الكنيسة الإنجليكانية).

في أبريل من عام 2004، ألقى العاهل المغربي خطاباً مهماً تحدث فيه عن أهمية الأمن الروحي، داعياً إلى إعادة هيكلة الحقل الديني، بما يتواءم مع خطط الدولة لصيانة أمنها الاجتماعي، من خلال محاربة الإرهاب، والتطرف، ونزعات العنف، وغياب التفاهم.

لقد كان هذا الخطاب محركاً لأنشطة فكرية وإجرائية سعت إلى تعزيز مفهوم "الأمن الروحي" في المغرب، عبر تمتين الوحدة، والسلام، والتفاهم الاجتماعي، استناداً إلى "السيادة المذهبية"، العائدة إلى اتساق المجتمع في احترامه واعتقاده بـ"المذهب المالكي".

لم يكن ما حصل في المغرب آنذاك، وامتدت مفاعيله إلى يومنا هذا، عبر إجراءات واضحة اتخذتها المؤسسات الدينية الرسمية، وأنشطة وفعاليات صبت في تحقيق الهدف ذاته، بعيداً عما يجري في دول عربية وإسلامية عدة.

يمكننا رصد هذا المفهوم، وفعالياته، في معظم دول منطقتنا؛ عندما نجد تصليباً وحرصاً على دور فاعل ودائم للمؤسسات الدينية الرسمية، في تسييد مذهبية معينة، أو رؤية واحدة للفكر والخطاب الدينيين.

في إيران، سيمكننا تاريخياً أن نرصد العلاقة بين استحقاقات إقامة الدولة، وتمتينها، وخوض معاركها، من جانب، وبين التمركز المذهبي، عبر صياغة روحية واحدة، يجري ترويجها، وتسويقها، وتسييدها، لتنهض بواجبات الوحدة الوطنية، والاتساق الوطني.

وفي تركيا، لا يتوقف الرئيس إردوغان عن مقاربة مفهوم "الأمن الروحي"، وإن لم يذكره لفظاً، عبر سياساته الرامية إلى تعزيز دور التصور الديني للإسلام السياسي الذي أنتج فكرة الخلافة، وما يمكن له أن يفعله في طريق استعادتها، أو على الأقل حماية الدولة بنظامها القائم، وتعزيز صلابتها في مواجهة خصوم الداخل والخارج.

وفي مصر، لا يكف الرئيس السيسي عن الإشارة إلى مفهوم منفتح للإسلام السني، يحرص من خلاله على مواجهة نزعات التطرف والعنف، ويدعو باطراد إلى ضرورة تطوير الخطاب الديني، لكي يكون مواكباً لأفكار حماية الدولة، عبر مخاطبة المؤسسات الدينية النافذة، وتشجيع وسائل الإعلام، وإطار التربية والتعليم.

وبالعودة إلى هيغل، وفكرته، عن الدولة، سنجد أن هذه المقاربات ذات الطبيعة السلطوية لا تختلف معه في ضرورة أن يكون هناك نسق روحي، عبر التزام ديني، وانتماء مذهبي، يفسره ويشرحه ويدعو إليه تأويل ديني محدد، يصدر عن مؤسسات دينية رسمية، لها قدر من التأثير والنفاذ في قطاعات الجمهور.

ويقود ذلك، بطبيعة الحال، أحياناً إلى ممارسات خشنة ضد دعوات ذات طابع ديني، تأتي مخالفة للنسق الذي تراه السلطة مواتياً لفكرة "الأمن الروحي"؛ وهي ممارسات قد تنتج إجراءات تمييزية، عبر سن القوانين، أو سلوكيات القوى النافذة، تجاه أتباع الرؤى الأخرى، سواء كانوا من المنتمين لأديان أو مذاهب مغايرة، أو كانوا من الذين يعتمدون تأويلاً مختلفاً للتأويل الرسمي الذي يُراد له أن يسود.

لقد أخذوا من هيغل ما يخدم تصوراتهم عن ضرورة أن تتحصن الدولة بمرتكز روحي، بعدما تمت ترجمة هذا المرتكز إلى "دين رسمي" و"مذهب معتمد" و"تأويل محدد".

لكن نتائج المسح البريطاني الأخير، ستنضم إلى نتائج مسوح أخرى في بريطانيا، وأستراليا، وألمانيا، ودول أميركا اللاتينية، وإشارات بالغة الدلالة في الشرق الأوسط، عن تراجع هذا الاتساق المفترض.

وسيعجز أصحاب نظرية "الأمن الروحي" عن تفسير دلالة ما يجري في بريطانيا ودول متقدمة أخرى، والذي سيظهر في السؤال: "لماذا يتراجع الإيمان بالدين، ولا تتراجع الدولة، أو يهتز اليقين فيها؟".

هنا سنعود إلى نظريات الدولة الأخرى التي ركزت على نجاعة فكرة "العقد الاجتماعي"، باعتبار أن مرتكز الدولة الأساس لا يكمن في الوحدة المذهبية، بقدر ما يكمن في حماية "الأمن الروحي"، باعتبار هذا الأخير ليس تسييداً لدين العموم، بقدر ما هو حماية فضاء المواطنين الروحي، وصيانته، واحترامه.

هل نحن بحاجة في دولنا العربية إلى مفهوم "الأمن الروحي"؟

بكل تأكيد، لا يمكن أن تتطور مجتمعاتنا، ولا أن تزدهر دولنا من دون توافر "الأمن الروحي"، الذي يتمثل في احترام ضمير الفرد، وحقه في الاعتقاد، وممارسة الشعائر.

* كاتب مصري

back to top