ثمن الوصل الباهظ!

نشر في 05-09-2018
آخر تحديث 05-09-2018 | 00:06
 طالب الرفاعي إن عيش الواقع لأي إنسان يضعه أمام مواقف لحظة الحياة، باختياراتها المحسوبة والصعبة في ميزان الربح والخسارة أولاً، وفي ميزان العاطفة ثانياً. بينما عيش الواقع الافتراضي يضع كل مستخدم أمام اختيارات سهلة ومبذولة.

يمكن لأي إنسان أن يدخل عالم شبكات التواصل الاجتماعية باسمه الصريح، أو تحت أي مسمى يختاره، وهو بذا يختار متابعة من يشاء، ومحادثة من يسمح وقتهم بمحادثته، والأهم من ذلك أنه يعيش علاقاته الافتراضية دون قيود أو مخاوف، كتلك القيود والمخاوف التي تفرضها عليه قوانين الواقع ومتطلباته وحساباته باهظة التكلفة. وهو إلى جانب ذلك حرٌ في قراءة ما يشاء، والإشادة به أو انتقاده بأي كلمات، أو حتى حذفه دون مشقة أو عتاب أو أذى.

إذن سحر مواقع التواصل الاجتماعي يكمن في أنها تقدم لمن يرتادها واقعاً مريحاً ومليئاً بما يشتهي، وتُحيطه بأصدقاء افتراضيين، وتقدم له كل هذا الواقع مجاناً ودون أي تبعات. لذا يعيش لحظته، ويدمن عيشها، لأنها تدغدغه، وتؤمن له الراحة المجانية، وتبعده عن كل ما يزعجه وينغص عليه.

لكن الدراسات الإنسانية والنفسية في عالم شبكات التواصل الاجتماعية تبيِّن أن تلك العلاقات الافتراضية تطبِّع من يرتادها بطابعها الشرس والقاسي أحادي الجانب، حيث إن الشخص نفسه سيواجه صعوبات كثيرة لحظة العودة إلى معايشة حياة الواقع، والتعامل مع طبيعة البشر الحقيقيين، والذي يتطلب بالضرورة دفع ثمن لكل قرار؛ صغر أو كبر. وفي هذا الصدد يقول عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان (1925-2017) في إحدى مقابلاته* إن "الانفصال عن الناس يشكل أيضا صعوبة. طبقا لأحدث الأبحاث، فإن متوسط عدد الساعات التي يقضيها الفرد أمام الشاشات لا البشر، هي سبع ساعات، وهو نصف الوقت الذي يكون فيه مستيقظا. (يتضمن هذا) جميع أنواع الشاشات، سواء كان كمبيوتر محمولا أو مكتبيا أو هاتفا محمولا أو جهاز آيباد. فنحن لا نفارق الشاشات. نحملها معنا أينما ذهبنا. فإذا نسيتها، تشعر وكأنك نسيت سروالك أو تنورتك. لذا، فإن الوهم هو أننا لسنا وحيدين. لكن في ذاك العالم الافتراضي الذي نعيش فيه نضع قلقنا جانبا. نعم، نتناسى هذا القلق، لأن الضغط المصاحب لكونك على الدوام متصلا بمئات الأشخاص يساعد على إخماد (القلق) بشكل مؤقت".

إن واحداً من أكثر الهواجس التي تشغلني، أن يكون مستخدم الكمبيوتر أو الآيباد أو التلفون النقال الذكي طفلاً أو حتى من الناشئة. فما أراه أن مجموعة كبيرة من الأمهات الكويتيات الصغيرات، ولا أقول الجميع، وبغية إسكات الطفل، تقوم بتقديم جهاز الآيباد إليه، لتشغله، وبالتالي تُخمد إزعاجه، وتتخلص من طلباته، ما جعل بعض الأطفال يدمنون تلك الأجهزة، وهذا يكاد يكون مُدمِّراً لواحدة من أهم مكتسبات ومهارات الجنس البشري، وأعني بذلك مهارة التواصل مع الآخر!

يتربى الآن أجيال من الأطفال والشباب في بيوتنا وهم متعلقون ليل نهار بأجهزة التلفون الذكي أو الآيباد وشبكات التواصل الاجتماعي، حتى إن بعضهم، وكم يبدو هذا مؤلماً، لا يعرف التكلم باللغة العربية، رغم أن أمه وأبيه عربيان، وخاصة أولئك الأطفال الذين يدرسون في مدارس أجنبية!

تعلق الشخص البالغ بشبكات التواصل الاجتماعي، وخلافاً لأنه يؤثر على مهارات تواصله بمحيطه الأسري ومحيط علاقاته في عمله أو أصدقائه، بافتراض أن هذا الشخص حاز واكتسب مهارات التواصل الإنساني خلال طفولته وشبابه، فإنه يجعله يعيش في غربة عما حوله، يصعب عليه الدخول في علاقات بشرية حقيقية، ويصعب عليه أكثر إيجاد وسيلة تواصل إنسانية جيدة معهم.

وعليه، فبقدر ما تقدم لك شبكات التواصل الاجتماعي لهواً يشغل ساعات يومك، فإنها تأخذ من حياتك الحقيقية ثمناً باهظاً مقابل ذلك، ثمناً يجعل الإنسان يستشعر وحدة وقلقاً وغربة عما حوله، وتحد بالتالي من قدرته على أن يكون إنساناً سوياً ومنتجاً لنفسه وأسرته ومجتمعه.

عودة إلى مقابلة باومان، فهو يقول: "لذا بدلًا من أن تعمل (الإنترنت) على جمع الناس، فهي تقوم بالنقيض، إذ إنها تمنعهم من الإصغاء لبعضهم البعض".

=======================

* رابط المقابلة: https://www.7iber.com/society/interview-with-zygmunt-bauman

back to top