«السوشيال ميديا» تكشف عوارنا وانقسامنا

نشر في 26-08-2018
آخر تحديث 26-08-2018 | 00:07
بسبب تراجع التعليم، وتردي الوعي، وانصراف الهمة عن كل جاد وحقيقي، يغرق مستخدمو "السوشيال ميديا" العرب في تلك المعارك الوهمية، ويصرفون فيها وقتاً وجهداً هم ومجتمعاتهم في أمس الحاجة إليه.
 ياسر عبد العزيز ستظل "السوشيال ميديا" ديوان العرب المعاصر لسنوات طويلة؛ ففيها تبرز قضاياهم، وتُبث آراؤهم، وتُسمع شكاواهم، وتُرسى أولوياتهم.

ماذا تقول "سوشيال ميديا" العرب في هذه الأثناء؟

اشتغل الجدل في المغرب بفعل "هاشتاغ" عنوانه "كن رجلاً"، وهو يحث الرجال على عدم السماح لنسائهم بارتداء ملابس السباحة الكاشفة في هذا الصيف القائظ، محاولاً إيقاظ نخوتهم الدينية والشرقية والذكورية؛ إذ يعتبر أنصار "الهاشتاغ"، وهم كثيرون، أن من يسمح لزوجته أو ابنته أو أخته بارتداء مثل هذه الملابس "ليس رجلاً".

وفي تونس، ما زالت أصداء أزمة قانون المواريث تتفاعل؛ فقد أعلن الرئيس السبسي فى خطابه لمناسبة عيد المرأة فى تونس، أنه سيقدم صيغة تترك الباب مفتوحاً أمام المورث للاختيار بين المساواة بين الذكر والأنثى في الميراث أو الالتزام بالمواريث وفق الشرع الإسلامى، مستنداً في ذلك إلى أن "تونس دولة مدنية"، وداعياً القوى السياسية والمدنية للنقاش، قبل أن يتحول الأمر إلى تشريع.

لقد تحولت تلك الدعوى إلى معركة على "السوشيال ميديا" التونسية والعربية عموماً؛ إذ انقسم إزاءها المستخدمون إلى فريقين أساسيين؛ أولهما يرى أن هذا الخيار ضروري ومتسق مع دولة القانون واحترام المساواة، وثانيهما يعتبر أنه خروج عن "الشرع"، وإلغاء لأحد الأحكام "قطعية الثبوت وقطعية الدلالة"، ولعبة انتخابية تنتهك ثابتاً دينياً.

وفي سويسرا، حُرم زوجان مسلمان من الحصول على الجنسية، لأنهما رفضا مصافحة الجنس الآخر، مما اعتبرته السلطات المعنية في البلاد سلوكاً "غير متسق مع الثقافة الوطنية وتكريساً لعدم المساواة"؛ وهو الأمر الذي استلزم معركة أخرى طاحنة على "السوشيال ميديا"، انقسم خلالها المتابعون ما بين مؤيد باعتبار أن هذا "حق وضرورة شرعية"، ومعارض يرى أن تلك الممارسة غير مطلوبة، وغير متسقة مع رغبة الزوجين في الحصول على جنسية بلد لا يوقران ثقافته.

وفي مصر اشتعلت المعركة على "السوشيال ميديا" في أعقاب إعلان داعية ديني يدعى "معز مسعود" أخبار زواجه من فنانة "سافرة" تدعى "شيري عادل". يقول أنصار الزواج على مواقع التواصل الاجتماعي إن هذا "حق شخصي"، ويجب ألا يهاجَم الداعية بسببه، فيما يذهب المعارضون إلى أن "مسعود"، الذي تمركز في أوساط الدعاة وبنى مجداً وحقق شهرة، لا يحق له أن يفعل هذا لأنه كان أحد الداعين بإلحاح إلى ارتداء الحجاب، إلى حد أنه "وجه أوصافاً غير لائقة أحياناً لهؤلاء الذين يبقون نساءهم سافرات".

ولم تكد هذه المعركة تهدأ حتى اشتعلت معركة أخرى في الاتجاه ذاته، حين أقدمت ممثلة معروفة هي "حلا شيحة" على خلع حجابها، وإعلان رجوعها عن اعتزالها التمثيل؛ مما قسم المتفاعلين إلى قسمين آخرين؛ أحدهما يزكي فعلتها باعتبارها "حرية شخصية"، والآخر يدينها باعتبارها "مرتدة عن (فريضة) الحجاب إلى معصية السفور".

ولم يكد شهر أغسطس الساخن ينتهي حتى اشتعلت معركة جديدة على خلفية تغريدة للشيخ يوسف القرضاوي، فُهم منها أنه "يقلل من أهمية فريضة الحج"، ورغم نفيه هذا الموقف، وتذرعه بأن تغريدته أخرجت من سياقها، فإن اللائمين لم يتوقفوا عن وصفه بأنه "مكايد" يحاول أن يستغل علمه الديني وموضعه الاعتباري في الغمز من قناة المملكة السعودية وخدمتها للحج والحجيج، على خلفية النزاع السياسي الخليجي.

لا يمكن فصل هذه المعارك على "السوشيال ميديا" عن الاحتقان والتخبط في المجال العام العربي، ولا يمكن غض الطرف عن أنها تعبير واضح عن ضحالة أولويات الجمهور أولاً، وعن انقسامه ثانياً، وعن انقطاعه عن التبصر والتعاطي العاقل المسؤول ثالثاً.

في عام 1798، استولى الجيش الفرنسي بقيادة نابليون بونابرت على الإسكندرية، حيث أراد هذا القائد الداهية تسهيل مهمته في احتلال بقية أراضي مصر؛ فكتب رسالة، وأمر جنوده بتوزيعها في أنحاء البلاد. الرسالة كانت تقول: "أيها المشايخ والأئمة قولوا لأمتكم إن الفرنسيين هم أيضاً مسلمون مخلصون، وإثبات ذلك أنهم قد نزلوا في روما، وخربوا فيها كرسي البابا".

بعد هذه الحادثة بسنوات، وقف نابليون أمام مجلس الدولة في بلاده، محاولاً أن يشرح وسائله الحربية والسياسية، التي مكنته من حصد مجد أوشك به على حكم القارة الأوروبية بأسرها؛ فقال: "لم أستطع إنهاء حرب الفاندي، تلك المنطقة الجنوبية الغارقة في العصبية الكاثوليكية، إلا بعد أن تظاهرت بأنني كاثوليكي حقيقي، ولم أستطع الاستقرار في مصر إلا بعد أن تظاهرت بأني مسلم تقي، وعندما تظاهرت بأني بابوي متطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في إيطاليا، ولو أنه أتيح لي أن أحكم شعباً من اليهود لأعدت من جديد بناء هيكل سليمان".

لطالما استخدمت السياسة، ومعها السوق، الدين مطية ووسيلة لتحقيق أغراضها؛ فمرة لتوحيد بلد منقسم، ومرة لتقسيم بلد موحد، ومرة لإقامة إمبراطورية واسعة، ومرة لتفكيكها، ومرة لإشعال الفتنة، ومرة لإعادة التماسك واللحمة، ومرة لشن الحروب، ومرة لإحلال المودة والسلام، ومرات من أجل تسويق سلع وبضائع وخدمات، كما سبق أن فعل الداعية عمرو خالد، الذي قال إن "أكل دجاجة معينة، تنتجها شركة معينة، يساعدك في الارتقاء الروحي".

يعطي التصور الديني للسياسة والسوق الفرصة لاستخلاص الذرائع المطلوبة في كل آن، إذ إن تلك لعبة التأويل والنزع من السياق منذ قديم الأزل.

بسبب تراجع التعليم، وتردي الوعي، وانصراف الهمة عن كل جاد وحقيقي، يغرق مستخدمو "السوشيال ميديا" العرب في تلك المعارك الوهمية، ويصرفون فيها وقتاً وجهداً هم ومجتمعاتهم في أمس الحاجة إليه.

معظم الانشغالات التي تُسجل على مواقع التواصل الاجتماعي تنبع من تمترس معظم المستخدمين خلف هويات يريدون لها أن تكون حادة ومؤثرة ومتسقة مع مواقف مبدئية، وكلما كانت هذه المواقف صارمة ولا تقبل التزعزع شعروا بالرضا والاكتمال، وكلما ساندتها نصوص دينية شعروا بامتلاك الحقيقة المطلقة.

المراقب لحال النقاش العربي العام على مواقع التواصل الاجتماعي يجب أن يشعر بخطر شديد، لأن الأمة التي تواجه تحديات جسيمة لا تشغلها وتقسمها غير تلك الترهات.

* كاتب مصري

المراقب لحال النقاش العربي العام على مواقع التواصل الاجتماعي يجب أن يشعر بخطر شديد

لا يمكن فصل المعارك على «السوشيال ميديا» عن الاحتقان والتخبط في المجال العام العربي
back to top