عندما نكبر (1)

نشر في 06-08-2018
آخر تحديث 06-08-2018 | 00:00
 فوزية شويش السالم عندما نكبر نتغير... ليس فقط شكلنا الخارجي في المرآة يختلف ويتغير، لكن كل ما فينا يتغير، فهمنا وإدراكنا ونظرتنا إلى كل أمور الحياة تتغير، كأننا نعود إلى جذورنا التي تخيلنا أننا تخلصنا منها وأننا لسنا هي، ننتمي إلى عالم مختلف عنها وأننا غيرهم، لكننا في الواقع لسنا إلا هم وامتداد لهم بكل ما كانوا عليه، وسعينا للتخلي عنه، أو تغييره أو تطويره وتحسينه ليس إلا وهم يطفو فوق سطح غرور شبابنا.

لكن عندما ننظر إلى صورتنا بالمرآة نجدهم أمامنا وليسوا انعكاسا لنا.

عندما نكبر نصبح أمهاتنا وآباءنا، ليس انعكاسا لصورتهم بالمرآة، لكننا في الواقع بتنا نسختهم، أو بتنا هم، أو هم حلوا بنا.

أضحك من نفسي عندما أجدني بت نسخة من والدي، وما كنت أرفضه وأجادله في منطقه الذي لم أكن أستسيغه أحيانا، وأجده متعسفا أو غير مواكب للزمن أو لأهوائي وميولي وعنادي، وأغضب أنا وأخواتي عندما يمنحنا الموافقة على أمر ما نرغبه ونود القيام به وتنفيذه، ثم عندما يأتي الصباح ويفيق من نوم الليل يغير رأيه فيما اتفقنا عليه. فماذا حدث يا أبي ما بين النوم والصحو؟!

- ما قطع عقلي.

يكون هذا هو جوابه ورده لسؤالنا، أي إن موافقة النهار مسحتها هواجس الليل، الذي قاست وحللت البيانات والمعلومات، واحتساب المخاوف والمخاطر وكمية النجاح والفشل فيها، وكل المعايير التي ستعوق وتوقف وتنهي موافقته، وها هو ما رفضته واحتججت عليه في السابق، أعيد تقمصه وأعيش في دوره اليوم، وأجدني كلام الليل يمحوه النهار، وكلام النهار تمحوه هواجس الليل، وتعمل بطارية المخ في شحن حسابات الأخطار والأعطال، وكل ما هو خارج خط الأمان والسكينة والراحة. وهكذا نصبح نسخة من نسغنا وصورة المسودة عنه، والسؤال هو لماذا نصبح إعادة وتكرارا له؟!

هل هي دورة الحياة وتقدم العمر يجعل تفكيرنا متماثلا ويضعنا بنفس المعيار والقالب وطريقة الحسابات والتعامل مع أمور الحياة بمقياس التوجس والحذر، ويبعدنا عن روح المبادرة والمغامرة ولذة الخوض في الاكتشافات الضارة والنافعة على حد السواء، وقدرة القبض على زمام الأمور بدون احتساب شراك المحاذير والمخاوف؟

أين تختفي تلك الجسارة والجرأة والمخاطرة والاقتحام لكل جوانب الحياة الهادرة المتدفقة؟

أهكذا بكل بساطة نتخلى ونترك عنفوان الحياة خلفنا، ونكتفي بالمراقبة وحسابات المحاذير والقلق؟

عندما نكبر... نخاف أكثر تزداد حساباتنا ومخاوفنا الوهمية، وتزداد احتياطاتنا وتدابيرنا التي ليست أكثر من معوقات تبعدنا عن إصابة الهدف.

لكن أليس هناك من محاسن وجمال وفضائل ومميزات لنا عندما نكبر؟ هل كل ما يتبقى لنا عندما نكبر هو "الحثل" المتبقي بفنجان قهوة شربناه، أو بقايا صور ومشاهد لمغامرات جسورة فضت قشرة بيضتها الصلبة بقوة لسبر مقامرة حياة مجهولة، مطوقة بأسلاك النجاح أو الفشل وقوة قرار فض المصير.

بلى لحسن الحظ يوجد هناك مباهج... فمن المحاسن عندما نكبر نجد أن السعادة والمتعة والإيناس آت من صحبتنا لذواتنا، من العيش بالفهم الحقيقي للذات وبالتراضي والسلام معها، والتخلي عن شحنات العنف والغضب وعدم الرضا عنها، ومحاولات تغيرها ولوي عنانها وتطويعها بحسب رغباتنا لتجاري أحداث متطلبات الزمن من حولها، لسنا بحاجة إلى إيجاد السعادة من خارجنا، لأنها موجودة في دواخلنا، فقط تحتاج إلى هدوء وسكينة الموتور حتى نتحسس وهج إشعاعها، وهو ما كان يحصل مع آبائنا، حيث كانت سعادتهم تتأتى من أبسط الأمور، جمعتنا وصحبتنا لهم مع وجبة هنية كانت تمثل قمة الهناءة والسعادة.

وها نحن نكرر ونعيد نفس الدور الذي عشناه معهم، وبات عالمنا هو عالمهم.

عندما نكبر... نحب عزلتنا، نتعود عليها، يصبح الصمت صديقا لنا، والوحدة رفيقة درب مخلصة لن تتخلى يوما عن صحبتنا.

عندما نكبر... نتعلم كيفية مصاحبة الصمت والبعد عن ضجيج معارك هرولة تروس الحياة وغبار الأقدام اللاهثة.

عندما نكبر... نعود إلى بهجة البراءة الأولى، براءة الأطفال النيئة التي ترى المتعة في أصغر المعطيات من حولها وأبسطها، ضحكة حفيد، تفتح ورد الحديقة، صباح يعبق برائحة المطر، رئة تراب تنفث عبقها، وقلب الكبير الساكن في عزلة وحدته يبتسم ويضحك لذاك النسغ الساكن به، والذي يُعيد تكرار بث أدواره وأطواره في نسخته المتكررة.

back to top