ما قــل ودل: استقالة وزير الدولة لشؤون البريكست في بريطانيا... دلالتها في النظام البرلماني

نشر في 05-08-2018
آخر تحديث 05-08-2018 | 00:10
 المستشار شفيق إمام كان من المقرر أن تقدم تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا خطة حكومتها لشكل العلاقات المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي أو الورقة البيضاء لنظرائها الأوروبيين، إلا أن استقالة منتصف الليل لأهم وزير في الحكومة، وهو وزير شؤون البريكست ديفيد ديفيز الذي يعتبر أحد صقور الحكومة الداعمين بقوة لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، قد وضعت حكومة ماي في مأزق كبير أمام مجلس العموم البريطاني من ناحية وأمام الاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى.

سيادة القانون الإنكليزي

وجوهر الخلاف بين رئيسة الحكومة البريطانية ووزير البريكست حول سيادة القانون الإنكليزي وليست التشريعات الأوروبية، وهو ما سطره الوزير في استقالته، الذي يعارض خيار رئيسة الوزراء المفضل بإبرام شراكة جمركية مع الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي من شأنه تسهيل التبادل التجاري بلا قيود، موضحا أن ذلك سيعوق قدرة بريطانيا على إبرام اتفاقات تجارة حرة مع أميركا وغيرها من دول العالم لأن بريطانيا ستظل ملتزمة بالإطار القانوني الأوروبي.

وجاء في كتاب الاستقالة الموجه إلى رئيسة مجلس الوزراء أنه يجب على تيريزا ماي الالتزام بثبات تجاه ما وعدت به هي نفسها، وحدث من قبل أن قرر أحد زعماء حزب المحافظين السابقين وهو السير روبرت بيل أن يناقض وعوده مما تسبب في ابتعاد حزب المحافظين عن السلطة لمدة 28 عاما، وذلك في تحذير واضح لماي من أن نكوصها عن وعودها الانتخابية بالخروج من السوق الأوروبية والاتحاد الجمركي قد يكلف حزب المحافظين ثمنا باهظا لدى الناخبين من أنصار البريكست.

وقدمت ماي نموذج "الطريق الثالث" لشكل العلاقات مع أوروبا بعد البريكست في محاولة لإيجاد حل وسط يرضي جناحي حزبها.

و"الطريق الثالث" هو مزيج من خيارين: الأول يسمى "التسهيلات القصوى" ويتضمن استخدام إجراءات موثوقة وتكنولوجيا لتقليل نقاط المراقبة الجمركية، والخيار الثاني يتعلق بإقامة "شراكة الرسوم الجمركية" ويقضي بأن تقوم بريطانيا بتحصيل رسوم الاتحاد الأوروبي على البضائع المتوجهة إلى دول التكتل، وفرض رسومها الخاصة على البضائع المتوجهة إليها، ويعارض دعاة الخروج الخشن من أوروبا.

لم تتشنج رئيسة الحكومة عندما تلقت كتاب الاستقالة، لكنها قررت رأب الصدع الذي حدث في الحكومة وفي حزبها حزب المحافظين وفتح باب الحوار مع المعارضين لخيارها.

الحوار جوهر النظام الديمقراطي

فالرأي والرأي الآخر هما جوهر النظام الديمقراطي وسبب تقدم الدول الغربية ورقيها واستقرار نظمها الحاكمة، وعدم تعرضها للانقلابات العسكرية التي تحدث في إفريقيا.

وإن ضوء الحقيقة لا يظهر جليا إلا من خلال اتصال الآراء وتفاعلها ومقابلتها ببعض، وقوفا على ما يكون منها زائفا منطويا على مخاطر واضحة، أو صائبا محققا لمصلحة مبتغاة.

وإن حرية الرأي والتعبير لا تتأتى صيانة الدستور لها إلا من خلال تعدد الآراء، وعدم تقييدها بأغلال تعوق ممارستها سواء بفرض قيود مسبقة، أو بملاحقة من يعارضون رأيا تبناه النظام بقصد قمع آراء المعارضة.

ويقول الدكتور والفقيه الدستوري الراحل د. عوض المر رئيس المحكمة الدستورية العليا الأسبق في مصر في مقدمة مجاميع أحكام المحكمة الدستورية: "إن إكراه البعض على القبول بآراء يعارضونها لا يقل سوءا عن منعهم من التعبير عن آراء يؤمنون بها، وهو ما يعني أن الحمل على اعتناق بعض الآراء أو إقماع غيرها، سوءتان تناقضان مفهوم حوار يقوم على عرض الأفكار وتبادلها والإقناع بها".

ودلالة واقعة البريكست في أن النظام البرلماني في بريطانيا استطاع أن يحافظ على تماسكه وعلى ديمقراطية حقيقية، تتقبل اختلاف الآراء وعدم إجهاضها أو مصادرة أدواتها، في كل القضايا الوطنية والمصيرية، ولو كانت هذه الآراء معارضة لرئيسة الدولة الحقيقية، وهي رئيسة مجلس الوزراء، فالملكة في بريطانيا تسود ولا تحكم وفقا للقاعدة الدستورية التي تحكم نظام الحكم الملكي: "The King can do no rouing فلم يتهم وزير الدولة لشؤون البريكست بالخيانة، ولم تتهم رئيسة الوزراء بالخيانة، كما يحدث في بلادنا في أي رأي يخالف رأي رؤساء الجمهوريات في الدول التي تأخذ بالنظام الرئاسي، لأن ذاتهم مصونة لا تمس بغير نص في دساتير هذه الدول، بل بحكم المنفعة والقوة التي يتمتعون بها.

النظام الرئاسي والحكومة الضعيفة

وقد كانت مصر من الدول التي أخذت بالنظام الرئاسي في أعقاب ثورة 23 يوليو سنة 1952، بعد إلغاء الأحزاب فيها عقب الثورة ورغبة الرئيس جمال ورفاقه في إعطاء سلطات واسعة لرئيس الجمهورية في دستورها المؤقت الصادر سنة 1954 وفي أول دستور لها بعد الثورة في يناير سنة 1956، ودار حوار طويل بين أساتذة القانون الدستوري في جامعة القاهرة وجامعة عين شمس.

وقدمت لهذا الحوار كلمة قصيرة في مجلة لواء الجامعة التي كانت تصدر عن مجلة العلم المصري في سنتها الـ29 في عددها رقم 662 الصادر بتاريخ 15 مارس سنة 1952، وكنت مديرا لتحرير مجلة لواء الجامعة.

تتردد فكرة الأخذ بالنظام الرئاسي المعمول به في أميركا بين مؤيد ومعارض، وقد كثرت التنبؤات بأن هذا النظام سيؤدي دورا كبيرا في وضع الدستور الجديد. قد يكون هذا الدور إيجابيا وقد يكون سلبيا. وهذا بالطبع متروك لأعضاء لجنة الدستور، والكلمة الأخيرة للشعب لهذا رأينا أن نعقد على صفحة المجلة لقاء بين الدكتورين سيد صبري وأستاذ القانون د. سليمان الطماوي في هذا الموضوع.

وكنت قد أجريت الحوار بين الفقيه الكبير المخضرم د. سيد صبري، أستاذ القانون الدستوري بجامعة القاهرة، والفقيه الشاب د. سليمان الطماوي، حيث كان الأول يرى عدم الأخذ بالنظام الرئاسي للأسباب التي طرحها وهي: "أن النظام الأميركي قائم على نظام فصل السلطات التام، وقد أثبتت التجارب في جميع البلاد عيوب هذا النظام، لأن السلطات في أي دولة من الدول يجب أن يكون بينها علاقة تعاون حتى تبدو الدولة كوحدة واحدة، كما أن الفصل التام بين السلطات، يؤدي إلى عدم التفاهم بين سلطة وأخرى، لاسيما بين السلطة التشريعية والتنفيذية، مما أدى إلى انقلابات متعددة في الدول التي أخلت بهذا النظام ومنها دول أميركا.

كما أن انتخاب رئيس الدولة يكون بواسطة الشعب، وهذا يمنحه سلطات تجعله في مركز يتفوق على البرلمان، وبذلك ينعدم التعاون بين السلطة التشريعية والتنفيذية، وقد بلغت أهمية مركز رئيس الدولة المنتخب بهذه الطريقة حدا يجعل الفلاسفة يطلقون على هذا النظام (الرئاسي) نسبة إلى رئيس الجمهورية لأنه أهم سلطة في هذا النظام. والبعض سماه "حكومة رجل الشعب المختار" لذلك أرى أن هذا النظام لا يقوم على التوازن بينما يجب أن يسود التوازن بين السلطات في الدولة".

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.

back to top