«هلكوني» وسقراط الذي لا يعرف

نشر في 04-08-2018
آخر تحديث 04-08-2018 | 00:04
 د. أحمد باقر العلي "#هلكوني" كان ذلك الوسم الذي تصدر فيه أشخاص أبرزهم د. موافق الرويلي من المملكة العربية السعودية قبل سنوات في فضح جرائم التزوير والشهادات التي لا تساوي الأشجار التي قطعت ولا المحابر التي أسيلت لتزين جدران الواهمين، شهادات من ورق، وما أكثر الأشياء من حولنا المصنوعة من ورق، وراح الرويلي وسار على خطاه مجموعة في تعرية هذه الدكاكين والحاصلين على شهادات منها؛ بنشر سيرهم الذاتية وأماكن عملهم ومناصبهم لعل في الوجوه ما تبقى من حياء، وعلى الرغم من أنها مشكلة عالمية فإننا دوما عشاق المظاهر والمسميات، وأسرى الماضي المجيد، فيعتقد بعضنا أن حرفا يسبق اسمه سيعطيه وزناً وأهمية، فأخذها هذا وجاهة وذاك طريقا للبرلمان وآخر سعياً إلى منصب، وبين هؤلاء ضاع عشرات الطامحين الحقيقيين، فلم يجدوا تقديرا نظير جهد عملهم البحثي، ولم توكل لهم مهمة هم أكثر الناس أهلية واستحقاقاً لها.

ما يحصل هذا مسؤولية من تجمدت عقلياتهم على الانبهار البدائي بشكل الشهادة أو ظاهرها، بل أبطلوا التفكير بمعنى المؤهل، وكيف سيفيد البلاد والعباد تطبيقا. كل شيء متروك للغيب والبركة!

عاد هذا الملف إلى الواجهة قبل أيام بعد اكتشاف أمر مزور في الجهاز المسؤول عن تدقيق الشهادات في الكويت، ومعها خرجت أسماء وسقطت أحرف الدال كسقوط الجيفة من أعلى التلال، وذهب الناس في التحليل والتطبيل والتمجيد لمسؤولين إلى حد التملق المزعج، في حين أن هؤلاء أولى بهم الحساب والعقاب، حيث كانوا ذاتهم في مناصبهم القيادية إبان كل تلك الجرائم التعليمية، وما زلنا ندور في فجوة الماضي دون حتى أن نحمل المسؤولية لأحد غير وافد الفداء، لأنهم أقل شجاعة من أن يشيروا إلى مكمن الخلل الأصلي.

نتحدث عن التزوير ولا نتحدث عن مئات الدكاكين التي اعتمدت وابتعث إليها أناس، فمن اعتمدها وبأي ثمن ولماذا؟ فدائما تقصياتنا منقوصة، وكم لدينا من خريجي أفضل الجامعات العالمية لا يُمكَّنون ولا يُبتعثون ولا يُعينون في المؤسسات الأكاديمية بحجج واهية مضحكة لا يفهمها أحد، يقول سقراط: "السر في عمل التغيير يكمن في ألا تركز طاقاتك في محاربة القديم بل في بناء شيء جديد"،

وأنا لست متشائما لكنني لا أرى بناء جديدا يشيد ولا حروبا إلا انتقائية، قائمة على ردة فعل تحمل أقصر مدة انتهاء صلاحية، فلا تدوم إلا ساعات أو أيام "عاش الهاشتاق" أو "سقط الهاشتاق" وكل عام وأنتم بخير، ودامت مصالحكم الفئوية الضيقة بخير.

والمصيبة هو أن أرى اختزالا للقضية في ٥٠ ملفاً، والحقيقة آلاف الملفات المتراكمة حتى أصبح اللقب لا يعني شيئاً، وتدهورت كل المؤسسات العلمية دون استثناء، وهذا نتيجة لأسباب متعددة، ولعل أكثر ما يزعج من تلك الأسباب هو النظام العقيم الذي ينظر إلى خريج كشك في قرية نائية النظرة ذاتها لخريج هارفارد وستاتفورد وإمبريال وغيرهم.

وترجعني هذه الحادثة لسنوات حيث التقيت أحد وزراء التربية والتعليم العالي في لندن وبحضور ممثلي الملحقية آنذاك فسألته كيف تعتمدون الجامعات؟ وبناء على أي نظام تقييم؟ ولماذا لا توجد بعثات مميزة للدراسات العليا أسوة بالبكالريوس؟ وأي منطق هذا يجعل الأكبر سنا والمعيل أسرة في أغلب الأحيان وضعه المادي أقل من طالب في مقتبل العمر، احتياجاته نسبيا بطبيعة الحال أقل؟

فالتفت يمينا وشمالا مستغربا، وقال "صج ما عندنا؟"، ثم أسدى نصيحته الجهنمية: "من أيامنا وهم يضيقون، لا تحبطوا وحاربوا واستمروا"، وإلى اليوم لا أعرف من يضيق وهو على رأس الهرم، ويعرف أن هناك تضييقا ولا يحرك ساكنا، بل يشتكي المسؤول وبيده مفتاح الحل.

يومها أيقنت أن الإفراط في التفاؤل غباء، ولا جدوى من أن تنادي فحنجرتك أثمن من أن تضيع في مخاطبة الأموات، وعوداً إلى سقراط، ففي قصة محاكمته الشهيرة كانت قوة سقراط هي إيقانه أنه يعرف أنه لا يعرف، وضعف خصومه اعتقادهم أنهم يعرفون، وهنا تكمن كل مفاتيح الحكاية.

***

أعود إلى الكتابة الصحافية بعد انقطاع سنوات، وبهذا المقام أشكر الإخوة في جريدة "الجريدة" على تكرمهم بتخصيص هذه الزاوية، التي لا أنفي أنها ستحمل قليلاً من الهموم وشيئاً من الشكوى، ولكنني أعاهدكم أن تحمل إليكم من خاطري كثيراً من الصدق.

من حروفي تحية، طبتم وطابت أوقاتكم.

back to top