المأزق التنموي في تزوير الشهادة

نشر في 04-08-2018
آخر تحديث 04-08-2018 | 00:06
 د. محمد بن عصّام السبيعي ينشغل هذا المجتمع منذ أسابيع بخطاب حكومي حاد النبرة وذي وعيد، يحوم الأمر حول شهادات مشبوهة، حصل عليها عدد ليس بالقليل من مواطني هذا البلد، وعلى أساس من تلك الأوراق حاز حاملوها، بغير وجه حق، مزايا مالية وفيرة ومراتب وظيفية سامقة في جهاز الحكومة.

الحق أن شأن تلك الشهادات وشأن حملتها ليس بالجديد على هذا المجتمع، فمنذ سنوات وربما عقود يعلم كثيرون بحقيقة ذلك، كما أن أحداً لا يجهل مدى جهل حملتها بما ينبغي على مثلهم إلمام به من قشور العلم، أجل ليس بالجديد، بل قد أضحى مؤخرا أمراً مألوفاً أن يتوافد المهنئون، يقدمون تهنئة لأفاكين وجهلة متمنين لهم مزيدا من العلو والرقي، وقلّ من ينكر ذلك، حال تنبئ بمدى تردي هذا المجتمع.

على أن الأمر وإن اتخذ الآن مسارا جنائيا تتولاه أجهزة الضبط في الدولة، إلا أن مسؤولية هذه السقطة التنموية واستتباعاتها الأخلاقية تتحملها أولا وآخرا الدولة، فالدولة ممثلة بحكومتها تتبوأ موقعا حيويا في ملء كثير من الشواغر الوظيفية بقدر ما يدفع عجلة التنمية إلى الأمام، وحكومة هذا البلد على وجه الخصوص تغالي في خلق الفرص الوظيفية؛ مما جعل منها أكبر ربّ عمل في الدولة، ولربما الأكبر نسبيا على مستوى المنطقة المحيطة، وغنيٌّ عن البيان أن ما قاد إلى ذلك كان الإسراف في المزايا المتاحة لموظفي القطاع العام، أكانت مزايا مالية أم ساعات عمل تقل بكثير عما يخبره القطاع الخاص، وهنا يمكن تتبع جذور أو دوافع الاحتيال للحصول على الشهادة؛ فربّ العمل الأكبر، أو الحكومة، لا يضع لشغل أي من وظائفه الرغدة أكثر من إبراز شهادة اجتياز لثمة مراحل دراسية. وبهذا ينحرف الأمر عن أبسط مبادئ إدارة الأفراد، فالحكومة لا تدفع للوظيفة أو بالأحرى لمن يؤديها كما يجب، بل للورقة أو لحاملها، أما أن يكون هذا كفؤا للعمل أو حتى على إلمام بما تحصّل عليه من معارف فذلك مما لا يسأل عنه. أجل تقدم الشهادة، في حال صحتها، عونا في تصفية مبدئية لطلاب العمل، لكن يجب ألا تكون بحالٍ بديلا عن كفاءة العامل في أداء العمل على الوجه الأكمل، فكم من واحد من غير ذوي الشهادة وله من العلم وكفاءة العمل ما يفوق سواه من حملة الشهادات، وناهيك عما لهذه السياسة من إخلال بمبدأ العدالة بين من يتاح له الحصول على الشهادة وآخر يضطر إلى تثقيف نفسه بذاته، فلا ريب أن لمثل هذه السياسة التنموية للدولة في استيفاء حاجتها من سوق العمل فعل الإغواء لكل ضعيف نفس أو مدّعي علم أو طالب جاه للحصول على الشهادة العلمية من غير الطرق المتبعة. على أن شطط الحكومة لا يقف عند هذا الحد، كلا بل إنها تعد شاغلي جهازها المتضخم أصلا، والوارط بما لديه من موظفين ذوي شهادات صحيحة وسقيمة، بمزايا أكثر ولربما راحة أوفر من العمل المريح أصلا، وذلك عند نيلهم شهادة أعلى أيضا، دونما أدنى اعتبار لما إذا كانت الشهادة الإضافية مطلوبة حقا لمقتضيات العمل، أو لعل معارف تكتسب في سبيلها تفيض عن احتياجات العمل، ومثل هذا جعل الاحتيال لا يقتصر على الشهادات الدنيا ومنها الإجازة الجامعية، وهي في الحقيقة ليست بالشهادة الدنيا، بل قد تطرق إلى شهادات يفترض بحملتها أن يكونوا على مستوى عال من الانصراف إلى المجهود العلمي وإجادة استخدام أدواته. محصلة الأمر كان أن هوى مدلول واحترام الشهادة العليا في هذا المجتمع إلى مستوى متدن.

ما يؤسف له حقا أن مثل هذا التفريغ للشهادة العلمية من مدلولها قد انتقلت عدواه إلى الفريق الذي صدق في تحصيل ما في يده من شهادة، ويجد نفسه بحسب قوله متضررا من تفشي تزوير الشهادات لأسباب تعود إلى سياسة الدولة في ملء شواغرها أو تطوير موظفيها على حد زعمها، فمنطوق هؤلاء ينصرف في غالبه إلى مسؤولية المزورين في سلبهم مواقع وظيفية في جهاز الدولة هم أحق بها، وهم على حد قولهم الذين قد أقاموا الليل كما النهار لنيل الشهادة في سبيل تلك الغاية، أي أنهم بذلوا ما بذلوا ليثوبوا أخيرا إلى راحة الوظيفة السهلة والهنيئة لدى الحكومة. ومثل هؤلاء، وإن توسلوا العلم، هم في النهاية طلاب شهادة وليسوا طلاب علم، وشأنهم في مسير التنمية، وإن لم يكن كما سياسة الحكومة وسلوك المزورين في دفع العجلة إلى الوراء، ولكنه معوق لها، وهو على كل حال شأنها منذ عقود.

back to top