رياح وأوتاد: هل أخذ الدستور بحديث «وإن جَلد ظهرك وأخذ مالك»؟

نشر في 30-07-2018
آخر تحديث 30-07-2018 | 00:10
يستطيع المواطن في الكويت، بفضل الله تعالى، ثم بحكمة الآباء والأجداد وأمراء الكويت المتتالين، رحمهم الله جميعاً، أن يجهر برأيه فيما يراه من أخطاء أو مخالفة شرعية أو مظالم في أي قرار أو قانون دون ضرر أو خوف، وفي الوقت نفسه لا يخرج على الحكم ولا القانون أو النظام العام.
 أحمد يعقوب باقر العنوان أعلاه مفاجئ وغير مألوف، هذا صحيح ولكن لا تستعجل واقرأ معي:

أرسل لي كثير من الإخوة مقطعاً من محاضرة ألقاها أحد النواب السابقين تناول فيها كتاباً يقول إنه قد طبع في الكويت جاء فيه أن الطاعة في حديث "وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك"، هي الطاعة المطلقة، وأنهم (يقصد من طبع وروج الكتاب) يعشقون الإنسان التافه الأحمق الأهبل، ولم يُبين النائب السابق إذا كان هذا الفهم القاصر كان من حديث للنبي، صلى الله عليه وسلم، أم أنه فهم مؤلف الكتاب، أم أنه فهمه هو من الحديث أو الكتاب.

والثابت أن الحديث صحيح ونصه: "تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك"، (سلسلة الأحاديث الصحيحة 2739)، ولكن ليس في النص كلمة الطاعة المطلقة، بل إن أحاديث نبوية كثيرة نصت على أنه لا طاعة في معصية، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وقد يسأل سائل: إذاً ما المقصود بالطاعة التي وردت في الحديث؟

والجواب أن المقصود بالطاعة هي الطاعة بالمعروف مع الالتزام بجماعة المسلمين وإمامهم وعدم الخروج على الحاكم المسلم وإن ظلم وجار، وهو كما جاء في أحاديث أخرى مثل حديث البيعة: "السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله"، ويُعبر عن هذا الأصل الشرعي الآن بالأساليب الدارجة حالياً مثل: الالتزام بالنظام العام وعدم التطرّف أو الإرهاب والعنف أو الفوضى أو الانقلابات أو الاغتيالات وغيرها من الوسائل والأساليب التي لا تقرها الدساتير والقوانين، كما لا تقرها الشريعة الإسلامية مثل الانقضاض على النظام العام أو الانتقاص من الأمير، والسب والشتم بقصد تحريض الناس عليه، وبالتالي على الحكم وزعزعة استقرار النظام، وهذا الفهم السليم لمعنى الطاعة هو الأصل الأول في هذا السياق.

ولا يصح أبداً فهم الطاعة الواردة في الحديث على أنها الطاعة في أخذ أموال الناس سحتاً أو ضرب ظهور الناس ظلماً، لأن هذه الأمور محرمة شرعاً فليس فيها طاعة كما قال تعالى: "وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ"، وأن الواجب شرعاً هو إنكارها وعدم إقرارها، وذلك لأن إنكار المنكر واجب شرعي، ويرى بعض العلماء أنه جزء وركن أساسي في الدين الإسلامي: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه"، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم "ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"، وقد بينت الأحكام الشرعية أن لإنكار المنكر قواعد وضوابط شرعية لا بد من مراعاتها حتى لا يترتب على إنكار المنكر وقوع منكر أكبر منه، مثل الفتن أو فقدان الاستقرار، وتهديد الأرواح والأعراض والممتلكات، وهذا الفهم السليم لإنكار المنكر هو الأصل الثاني في هذا السياق.

وهذان الأصلان من عظمة الشريعة الإسلامية في الجمع بين إنكار المنكر بالطرق المشروعة، وفي الوقت نفسه عدم الخروج على الحكم والنظام العام أو التطرف أو الفوضى التي تهدد استقرار الدولة الإسلامية وتخاطر بحياة الأبرياء وأعراضهم وأموالهم.

وهذا كان عمل علماء أهل السنّة والسلف ودأبهم على مدار التاريخ الإسلامي، فحافظوا على وحدة الأمة، ولم يقاتلوا الخلفاء أو السلاطين، بل قاتلوا أعداء الأمة تحت راية أولئك السلاطين الذين عُرف بعضهم بالفسق والظلم، ولكن في الوقت نفسه لم يترك علماء الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتصدوا للظلم والانحراف حتى إن بعضهم ضُرب وعُذب وسُجن ومات في السجن، ولكنهم لم يأمروا أبداً أتباعهم وتلاميذهم بالاغتيالات والانقلابات أو الخروج المسلح، وقد فصل ابن تيمية، رحمه الله، في ذلك تفصيلا مطولاً جميلاً.

والأصل الثالث المستفاد في هذا السياق أن من عظمة الإسلام تشريع تلك الدرجات في إنكار المنكر، فنحن نشاهد ونشهد أن في بعض بلاد المسلمين يستطيع المواطن أن يجهر بإنكار المنكر دون خوف أو ضرر يصيبة أو فتنة تحدث، كما يستطيع أيضاً الشكوى على رئيس الدولة لدى القضاء، ولكن في بعض بلاد المسلمين الأخرى لا يستطيع المواطن فيها أن ينكر إلا بقلبه خوفاً من القتل أو الظلم. (دون رضا طبعاً بالوضع المخالف للحق والعدالة)، مما يدل على اختلاف الإجراء الشرعي حسب ظروف المسلمين والضرورات في كل بلد.

وفي الكويت بفضل الله تعالى ثم بحكمة الآباء والأجداد وأمراء الكويت المتتالين، رحمهم الله جميعاً، يستطيع المواطن أن يجهر برأيه فيما يراه من أخطاء أو مخالفة شرعية أو مظالم في أي قرار أو قانون دون ضرر أو خوف، وفي الوقت نفسه لا يخرج على الحكم ولا القانون أو النظام العام.

فلنتأمل كيف أن جميع هذه الأصول الثلاثة المستفادة من هذا الحديث وشرحه، وضعها الآباء والشيوخ المؤسسون في نصوص الدستور الكويتي، وصدق عليه الأمير، فمنعت هذه النصوص الإساءة لرئيس الدولة (مادة 54)، ولكنها أوجبت المشاركة الشعبية، وأباحت حرية نقد المراسيم والقوانين والمطالبة بتغييرها، وحق استجواب الوزراء، وكرست دور مجلس الأمة في كل ذلك، وخصصت لجنة فيه للنظر في شكاوى المواطنين من المظالم المختلفة (المادة 115)، ونصت على استقلال القضاة دون أي سلطان عليهم، وفي الوقت نفسه نهت عن الخروج على هذا النظام الحاكم.

وبناء على هدي السلف الصالح قمنا بفضل الله على مدى أربعة عقود بسن كثير من القوانين الشرعية، والوقوف ضد الأخطاء والمظالم التي رأينا أنها تخالف الشريعة أو المصلحة العامة، خصوصا في قضايا الأخلاق والأموال العامة، كما قمنا بتقديم الاستجوابات لبعض الوزراء والتصويت ضد بعض مراسيم الضرورة التي صدرت في غيبة المجلس وأسقطناها، وذلك بالمشاركة الإيجابية في مجلس الأمة، فتم بذلك تغيير المنكر في كثير من الحالات والحوادث دون خروج أو انقلاب على النظام العام، ودون تحريض أو إساءة لولي الأمر، أو إخلال بالأمن.

وفي الوقت نفسه وقفنا ضد الفوضى ومخالفة النظام العام، ومحاولات تغيير الدستور من خلال الشارع والمظاهرات غير المرخصة، والإساءة إلى رأس الدولة.

فكانت طريقتنا هذه موافقة لحديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهدي السلف الصالح، والحمد لله رب العالمين.

هذه حكمة السلف وطريقتهم المثلى

فهل رأيت في الجماعات لهم مثيل؟

لا يصح أبداً فهم الطاعة الواردة في الحديث على أنها الطاعة في أخذ أموال الناس سحتاً أو ضرب ظهور الناس ظلماً
back to top