ضد الديمقراطية!

نشر في 29-07-2018
آخر تحديث 29-07-2018 | 00:12
منذ الاستقرار المطمئن على أن الديمقراطية أفضل نمط لحكم الشعوب، باعتبار أنها تمنح سلطة الحكم للقادة استناداً إلى تفويض حقيقي من الجمهور، لم تواجه الديمقراطية، كمفهوم وممارسة، أزمة كالتي تواجهها اليوم.
 ياسر عبد العزيز الفيلم اسمه "رئيس الدولة" Head of State، وتم إنتاجه في هوليوود، في عام 2003، وهو من إخراج وتأليف وبطولة الممثل الأميركي كريس روك، وقد عرضته قناة MBC2 مصادفة في الأسبوع الماضي، ليثير الكثير من الأفكار التي تتقاطع مع مستجدات سياسية بالغة الخطورة، تحدث في الولايات المتحدة الأميركية، ويمتد أثرها بطبيعة الحال إلى العالم أجمع.

فيلم "رئيس الدولة" يتناول قصة رجل أسود يدعى "مايز غيليام" فقد عمله كنائب عمدة لإحدى مناطق العاصمة واشنطن، وتخلت عنه صديقته، ليعيش حالة من البؤس وفقدان الاتجاه، إلا أن مقتل مرشح الحزب الذي ينتمي إليه إلى الانتخابات الرئاسية، فى حادث طائرة، يغير مجرى حياة هذا الشاب المغمور، عندما يقوم الحزب بإختياره لمنافسة مرشح الحزب الآخر، الذى شغل منصب نائب الرئيس الأميركي سابقاً.

لم يختر الحزب الأول "غيليام" لخوض غمار تلك الانتخابات للفوز بها، وإنما كان هذا الاختيار تعبيراً عن "مصلحة تكتيكية"، أراد الحزب من خلالها آلا يخرج من الانتخابات صفر اليدين، بعدما أيقن استحالة أن يعود منافساً قوياً يمتلك حظوظاً للوصول إلى هذا المنصب الخطير.

رأت قيادات الحزب الذي ينتمي إليه "غيليام" أنها، بعد الموت المفاجئ لمرشحها صاحب الحظوظ القوية للانتخابات، في حادث الطائرة المشؤوم، لم تعد قادرة على طرح مرشح آخر يمتلك الشعبية والقدرات الملائمة لخوض النزال.

ولأن الانتخابات الأميركية تعرف تنافساً تاريخياً يتواصل بغير انقطاع بين حزبين رئيسين، فإن قيادة حزب "غيليام" استقرت على طرح مرشح يستطيع أن يحصد أصوات الأقلية السوداء، وبعض الأقليات والمهمشين، توطئة لخوض معركة حقيقية في الانتخابات اللاحقة، يكون الحزب قد أحسن الاستعداد لها، وهيأ مرشحاً يمكنه الفوز، عبر البناء على ما يحققه "غيليام" من خلال مشاركته "التكتيكية".

وتتواصل أحداث الفيلم لنجد أن "غيليام" الذي يشعر بضآلته وصعوبة موقفه، يكتشف أنه لن يكون رئيساً ناجحاً بطبيعة الحال، خصوصاً عندما تحتدم المنافسة، ويدرك محقاً أنه، ونائبه المقترح (شقيقه "ميتش غيليام")، بعيدان كل البعد عن دهاليز العملية السياسية، وفاقدان للكثير من المعارف والمهارات اللازمة لتبوء المنصبين الخطيرين.

لكن الأحداث تجري لاحقاً عكس التوقعات؛ إذ يتقدم "غيليام" باطراد في استطلاعات الرأي، وتزيد فورة الحماس له، ويستقطب مناصرين بين البيض، لتتزايد حظوظه، وتبدأ الألاعيب السياسية ضده، بعدما بات مرشحاً جدياً يمكنه أن يحصد الفوز.

يعيد "غيليام" ترتيب أوراقه، ويستمع إلى مستشارين أمناء، وعبر عدد من تكنيكات الدعاية الرائجة، يستطيع أن يؤمن الحظوظ الكافية، ليفوز بالرئاسة، بعد مناظرة أمام منافسه، استطاع أن يربحها بعفويته ومنطقه الرافض للسياسات القائمة.

ينتهي فيلم "رئيس الدولة" و"غيليام" في موقع الرئيس، لكنه لا يخبرنا لاحقاً كيف تعامل مع متطلبات المنصب، وكيف استطاع أن يواجه تحديات الحكم، ليظل محافظاً على طابعه الكوميدي الخفيف، من دون أن يرهقنا بأن نتعرف إلى مسارات الرئيس الذي اجتاز لعبة بدت "سهلة" ليبدأ لعبة ليست سهلة على الإطلاق.

لقد تم استنساخ فيلم "رئيس الدولة" في أعمال فنية كثيرة؛ بعضها كان في أميركا وغيرها من الدول الأجنبية، وحتى في مصر ظهر فيلم "ظاظا" من بطولة الكوميدي هاني رمزي، في عام 2006، ليؤكد الإمكانية نفسها، حيث يصل شاب مغمور بلا مؤهلات أو قدرات إلى موقع الرئاسة عبر استخدام تكنيكات دعائية مخلوطة بعفوية وتلقائية أحبها الجمهور الساخط أساساً على أوضاعه والطامح إلى التغيير.

تقودنا المعالجة الواردة في فيلم "رئيس الدولة" وغيره من الأعمال التي استخدمت الفكرة نفسها إلى حقيقة ثبت لاحقاً أنها لا تقبل الدحض؛ ومفادها أنه: من الممكن، عبر استخدام آليات الديمقراطية بشكلها الراهن، أن ينجح غير المؤهل وغير اللائق وغير المتوقع في الوصول عبرها إلى سدة الحكم، استناداً إلى النجاح في توجيه عقل الجمهور والتلاعب بسلطته، واعتماداً على إخفاقات طبقة الحكم التقليدية.

ما الذي يجعلنا واثقين من نجاعة هذا الطرح؟

عشرات الأمثلة، التي تبدأ من نجاح هتلر في الفوز بالاستحقاقات الانتخابية التي جرت بنزاهة في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي، مروراً بنجاح "الإخوان" في الوصول إلى سدة الرئاسة والهيمنة على "البرلمان" في مصر في مطلع العقد الحالي، وأخيراً، وليس آخراً، إذا استعرضنا الطريقة التي وصل بها دونالد ترامب إلى منصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية.

لقد بات من المؤكد أن روسيا تدخلت في مسار الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة التي حملت ترامب إلى سدة الحكم، ورغم أنه لا يوجد دليل قاطع على أن هذا التدخل كان حاسم الأثر في تدعيم حظوظ هذا الأخير، فإن أحداً لم يعد قادراً على نفي هذا التدخل، بما في ذلك ترامب نفسه.

كتب الجنرال الأميركي "مارك هرتلنغ" مقالاً في مجلة "بوليتيكو"، هذا الشهر، شبه فيه التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية بما حدث سابقاً في "بيرل هاربر" 1941، حين دمر اليابانيون الأسطول الأميركي وقتلوا وجرحوا 3500 أميركي، ودمروا 300 طائرة، وعدة بوارج، وبما حدث في عام 2001، حين شنت "القاعدة" هجوماً في منهاتن، أدى إلى قتل ثلاثة آلاف أميركي وجرح ضعفهم.

لقد نفى بوتين تدخل بلاده في الانتخابات الأميركية 2016، لكن هذا النفي يظل من أعمال السياسية المعروفة، في ضوء أن كل الشواهد تشير إلى أن تدخلاً حاسماً جرى عبر استخدام وسائط "السوشيال ميديا" الفعالة في بلورة عقيدة لدى قطاعات من الأميركيين، قادت الجموع إلى التصويت لمصلحة رجل من خارج طبقة الحكم تماماً، تشي تصرفاته بأنه أولاً مدين للروس بالكثير، وثانياً بأنه بعيد بقدر كاف عن استحقاقات الحكم ومتطلباته الحيوية.

منذ الاستقرار المطمئن على أن الديمقراطية أفضل نمط لحكم الشعوب، باعتبار أنها تمنح سلطة الحكم للقادة استناداً إلى تفويض حقيقي من الجمهور، لم تواجه الديمقراطية، كمفهوم وممارسة، أزمة كالتي تواجهها اليوم.

وهذا الأمر بالذات، سيقود العالم إلى مراجعة ضرورية لفكرة الديمقراطية وآليات عملها، وهو أمر ستكون له تداعيات خطيرة.

* كاتب مصري

back to top