العجين والطين

نشر في 25-07-2018
آخر تحديث 25-07-2018 | 00:00
 طالب الرفاعي لا أدري سبباً يجعلني أحب القاهرة؛ الهواء والتراب والنيل والبشر والتاريخ وأحاديث العابرين ونظرات بعض المسنّين الجالسين عند أبواب العمائر القديمة. ولا أدري ما الذي يدور بين همس قلبي وقلبي، وأنا أتلفت إلى كل زاوية من زوايا أحيائها، وكأن لي ذكرى عشق قديم وصوت حبيب سينطلق منادياً عليَّ فيذكّرني بلحظة مرَّت ولا تزال لم تمر!

جمعني خلال الأسبوع الماضي لقاء عابر في القاهرة مع أصدقاء من بينهم: رئيس اتحاد الناشرين العرب السابق أ. إبراهيم المعلم، والفنان عادل السيوي، والقاص سعيد الكفراوي، والروائي عزت القمحاوي، والصحافي عماد الدين حسين رئيس تحرير جريدة الشروق، والصحافي سيد محمود، والشاعر والإعلامي ياسين عدنان. وعلى اختلاف لقاءاتنا، ظل سؤال يحوم فوق رؤوسنا: كيف يواجه المفكر والمبدع والمثقف والصحافي والإعلامي ما يدور حالياً في أقطار الوطن العربي؟ وهل مازال هناك ما يسند همة المفكر والمبدع كي يبقى واقفاً بوجه الدمار المتوحش الذي يعصف ببلدان المنطقة؟

قول واحد: النظام السياسي أقوى من أي شخص؛ مفكرا كان أو مبدعا. ويستتبع ذلك: إذا كان النظام باطشاً، فإنه لن يراعي حرمة أو إنسانية لأحد. لكن قولاً آخر لا مجال للتشكيك فيه، وهو: المفكر والمبدع أبقى من أي نظام. وهذا ما يجعل الروائي نجيب محفوظ حاضراً بإبداعاته على مائدة نقاش جيل الشباب المصري والعربي أكثر بكثير من الرئيس جمال عبدالناصر. والأمر نفسه مع حضور يوسف إدريس، وبدر شاكر السياب، ومحمود درويش، وكاتب ياسين، وعبدالرحمن منيف، والطيب صالح. وهذا نفسه ما يضمن بقاء القاص زكريا تامر والشاعر محمد الماغوط في وجدان سورية أكثر من أي رئيس سابق أو لاحق.

في لقائي مع الأصدقاء جالسنا السؤال: ما الذي يستطيع المفكر والمبدع أن يفعله كمسؤولية اجتماعية وإنسانية في وجه الأحداث الدائرة؟ وفيما ما يشبه اتفاقاً كان الرد: ليكتب المفكر والأديب قناعته بشكل مبدع، بعيدا عن المباشرة والمجانية، وليكن ذكياً في طرحه. وبعدها الجميع متأكد من أن الرسالة ستصل، والصوت سيصل، وأن جمهور التلقي قادر على فك شفرة كل حرف وجملة ومقصد.

لا يستطيع الكاتب اليوم الوقوف بوجه آلة إعلام جبارة، لكنه يستطيع أن يقول كلمته الصادقة تجاه ما يجري.

العالم يعيش متوحداً بسبب الإنترنت، ومحركات البحث، والقنوات الفضائية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وكل هذا مجتمعاً يخلق بشكل مباشر عالم: القرية الكونية، والثقافة الكونية، والمشهد الكوني، والذوق الكوني، والجملة الكونية، واللقمة الكونية. وهو نفسه ما يجعل جمهور التلقي في لعبة غسل دماغ دائرة ليل نهار، يستهلك ما يُقدم له، وبه يتشكل وعيه وقناعاته.

هذا عصر مختلف وفي كل مكان؛ أبداً ليس بالضرورة الأفضل والأهم هو ما يتم الترويج له! وأبداً ليس الأفضل والأهم هو ما ينتشر بين الناس، ويأخذ حقه وحضوره وحظوته! بل إن الأمر وصل إلى حد المجاهرة بالقبح والسطحي والتافه. والأدهى من ذلك، أن يصبح هذا القبيح والمبتذل هو الرائج، والنموذج! لكن، لا ضير في ذلك، هي دورة الحياة، وقسوة الأقدار، وهي لحظات النار، التي تصهر المعدن النفيس عن باقي الشوائب.

الزيف والتزييف صارا موضة العصر، في الفكر والإبداع والثقافة والسلعة والشهادة والوجه والصورة! الزيف والتزييف صارا الشائع، وانتشرا بين الناس في مختلف دول العالم ومختلف شؤون الحياة. وليس ما يمنع من استساغة المُزيّف والإقبال على المُزوّر، بل وصل الأمر إلى اقتناع بعض شرائح من المجتمع بأن لا شائبة تشوب التزوير، وأن الزيف والتزييف قد يكونان طريق النجاح!

زمن مختلف له أدواته، وموضوعاته، وشخوصه، وأعلامه، ورموزه! مجموعة كبيرة جداً من ناشئة العالم، وفي كل بلدان الدنيا، صارت تحلم اليوم بأن تكون لاعب كرة أو فاشنستة! لكن، ولأن للحياة نواميسها، فوحده تنور الزمن قادر على فرز العجين عن الطين، وبالتالي إنضاج الخبزة الألذ!

back to top