الولايات المتحدة أولاً... «مكروهة»... «وحيدة»

نشر في 18-07-2018
آخر تحديث 18-07-2018 | 00:06
 نيويورك تايمز تستحق بعض الأحداث التي كادت أن تُنسى أن نحيي ذكراها، فقبل مئة عام في يوم الباستيل عام 1918، قُتل ابن روزفلت الأصغر، كوينتن، في قتال جوي خلال معركة المارن الثانية، وبعد 26 سنة مات أخو كوينتن الأكبر، تيد، في فرنسا أيضاً بعد نزوله على شاطئ يوتا خلال إنزال النورماندي.

دُفن كوينتن وتيد جنباً إلى جنب في مقبرة النورماندي الأميركية في منطقة "كولفيل سور مير"، ولا شك أن هذا مشهد مؤثر بالنسبة إلى كل مَن ما زالوا يؤمنون بالقضية التي قاتل من أجلها هذان الشقيقان وإخوانهما في السلاح وضحوا بحياتهم في سبيلها، وخصوصاً فكرة العالم الحر، واحتمال نشوئه، والحفاظ عليه، والتي ألهمتها الولايات المتحدة ورسختها إلا أنها لم تستأثر بها.

بعبارات أخرى تشمل هذه كل المسائل التي أمضى ترامب رئاسته يشوهها باسم الشعار المنحط تاريخياً "الولايات المتحدة أولاً"، وبلغت عملية التشويه هذه ذروتها قبل أيام مع نوبة غضب الرئيس الأميركي الجامحة ضد ألمانيا في قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل، ثم إذلاله غير المبرر رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في مقابلة مع إحدى صحف مردوخ.

لا تراودنا أي شكوك حيال ما أراده ترامب: انهيار النظام الليبرالي الدولي بتقويضه والتزامه المحفّز تجاه المجتمعات المفتوحة ومؤسساته الدولية التي تحدده، مثل مجموعة الدول السبع، والناتو، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة التجارة العالمية.

من المنصف أن نتوقع من أعضاء الناتو الآخرين إنفاق مقدار أكبر من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع، كذلك من المنصف أن نتوقع أن يبلغوا معيار الـ2% في وقت أقرب من عام 2024، ولكن من غير المنصف أن نطالب، كما يفعل ترامب، بأن يبلغوا الـ2% بحلول شهر يناير ليرفعوا بعد ذلك هذا المعيار إلى 4%.

علاوة على ذلك، من الطبيعي أن نتناقش مع حلفائنا ونحاول إقناعهم ونتجادل معهم وراء الأبواب الموصدة، لكن ترامب يحاول إحراجهم علانية، مرغِماً إياهم على الاختيار بين أن يصبحوا أعداء أو متملقين: إما الانفصال أو التزلف. ولا يواجه ترامب بالتأكيد أي مشكلة في كل هذا: فلكي تكون الولايات المتحدة أولاً يجب أن تكون مهابة، لكن هذا يشمل أيضاً أن تكون مكروهة، ومكروهة لأسباب مبررة، فما الوجه الإيجابي في وضع مماثل؟

يرى ترامب الوجه الإيجابي في استبدال النظام الليبرالي بآخر غير ليبرالي يقوم على أوهام السيادة، والقومية، والدين، والإثنية، وتُعتبر هذه الأوهام ذاتها التي تبناها بوتين منذ زمن، مما يساهم في تفسير ميل ترامب إلى نظيره الروسي وقلقه من أن يلحق تحقيق روبرت مولر "الضرر حقاً بعلاقتنا مع روسيا"، حسبما ذكر.

بالإضافة إلى ذلك، يوضح أسباب ازدرائه الجلي للديمقراطية الأوروبية المعاصرة وجهوده لاستبدالها بأمر يتلاءم أكثر مع شخصية ترامب: رهاب الغرباء، ودعم الحمائية، والعدائية. وهذه أوروبا الألماني ألكسندر غولاند، والفرنسية مارين لوبان، والبريطاني نايجل فراج، والهنغاري فيكتور أوربن، والبولندي ياروسلاف كاتشينسكي، والإيطالي ماتيو سالفيني. ولا بد من الإشارة إلى أن الشخصيات الثلاث الأخيرة باتت في السلطة.

لا شك أن كل هذا يتلاءم مع مفهوم ترامب عن أهميته التاريخية، ولكن بالنسبة إلى الولايات المتحدة، يشكّل كارثة تاريخية، فلا تستطيع الولايات المتحدة قيادة العالم إلا إذا كان مستعداً لاتباعها.

ولكن ماذا يتبع؟ لن يتبع قواعد التجارة التي أرستها الولايات المتحدة في الماضي، إلا أنها تدعي اليوم أنها معدة بطريقة مريبة لتعرقلها، ولن يتبع المثل الديمقراطية التي جسدتها الولايات المتحدة في الماضي، إلا أنها تتعامل معها بازدراء اليوم. ولن يتبع مثالها في محاربة المتنمرين بعدما أضحت الولايات المتحدة نفسها متنمراً.

لا شك أن هذا يلائم الأميركيين الذين لطالما بدت لهم فكرة العالم الحر فكرة مجردة بعيدة، كذلك سيناسب الأوروبيين الذين تعود مشاعرهم المناهضة للولايات المتحدة إلى ما قبل انتخاب ترامب بعقود، وسيوافق بوتين الذي يدرك أن الولايات المتحدة التي تدافع عن مصالحها الخاصة أولاً وتقف أيضاً وتسقط وحدها، لكن الموتى في "كولفيل سور مير" ناضلوا بالتأكيد في سبيل أمر أعظم من ذلك بكثير.

* بريت ستيفنز

* «نيويورك تايمز»

back to top