ما قــل ودل: على هامش رد مشروع قانون التقاعد المبكر (2)

نشر في 15-07-2018
آخر تحديث 15-07-2018 | 00:10
 المستشار شفيق إمام المعادلة الصعبة

أدرك أن النواب المحترمين عندما أقروا هذا المشروع كانوا أمام معادلة صعبة، هي أنهم أقسموا على احترام الدستور الذي ينص في المادة (108) على "أن عضو مجلس الأمة يمثل الأمة بأسرها، ويرعى المصلحة العامة، ولا سلطان عليه في عمله بالمجلس ولجانه".

وهو نص تجري عليه الدساتير الحديثة كرد على موروث نيابي تاريخي، كان النائب يحرر لناخبيه تعهدا مكتوبا بأن يلتزم بتعليمات ناخبيه، ولا يخرج عليها أبدا، فجاءت النصوص الدستورية لتحرر النائب من الخضوع لهيئة الناخبين في كل ما يمارسه من أعمال في المجلس ولجانه.

وإنهم كانوا حريصين كل الحرص على رعاية المصلحة العامة في تقديم اقتراحاتهم بالتقاعد المبكر، فدبجوا في مقدمة المذكرة الإيضاحية لمشروع القانون الذي أقره المجلس بشأن التقاعد المبكر السيمفونية الرائعة حول نظام التأمينات الاجتماعية التي كانت محور مقالنا الأحد الماضي، والتي تضمنت حرصهم على عدم الإضرار بالنظام وعلى أداء دوره في تغطية الأخطار التي يؤمن المواطن ضدها، وهي الشيخوخة والعجز والمرض والوفاة، والتي يخرج من سياقها التقاعد المبكر كما أكدوا ذلك في هذه المقدمة.

وإنهم في حرصهم على المحافظة على النظام وضمان استمراره أكدوا كذلك في المذكرة حرصهم على عدم إرهاق الخزانة العامة بأعباء إضافية تثقل كاهلها، فسطروا في المذكرة ما وعد به المشروع من تحميل المؤمن عليه الراغب في التقاعد المبكر تكلفته كاملة.

ولكن زاغ مشروع القانون البصر عن هذه القناعة والسيمفونية الرائعة التي وردت في المذكرة الإيضاحية للمشروع، والتي تتجلى فيها رعايتهم للمصلحة العامة، لأنهم يرون في الاستجابة لمطالب بعض المواطنين بإتاحة الفرصة أمامهم لاختيار التقاعد المبكر، بما يتواءم وظروفهم الحياتية، مصلحة عامة أولى بالاعتبار، عندما ضمنوا المشروع النصوص التي تناقضت تماما وسيمفونية المذكرة الإيضاحية، لأن الاستجابة لهذه الرغبات هي التي تضمن لهم الاستمرار في رعايتهم للمصلحة العامة في الفصل التشريعي القادم.

ولكن كان لبعض النواب رأي آخر في التصويت على إقرار مشروع القانون وهو رفضه، لأن المصلحة العامة الأولى باعتبار هي الحفاظ على نظام التأمينات الاجتماعية من أن يتآكل تحت ضغط التقاعد المبكر الذي يخرج عن طبيعة النظام وخصائصه ومقوماته، وهو خيار صعب أملاه على هذا البعض قناعتهم بوعي سائر المواطنين بأخطار التقاعد المبكر.

المصلحة العامة في الحفاظ على النظام

ولا ريب في أن تحقيق المصلحة العامة هو الغاية الأساسية والنهائية لكل تصرفات سلطات الدولة، ولا يجوز لأي من هذه السلطات أن تخرج على هذا الهدف، ويقف الى جانب هذه الغاية الغايات التي يحددها الدستور لكل سلطة في ممارسة مسؤولياتها وعلى رأسها السلطة التشريعية.

وإذا كان تنكب السلطة التنفيذية لهذه الغاية هو أمر وارد ولكنه محدود، فعندما يتنكب رجل الإدارة المصلحة العامة في تصرف ما لفرض شخص كالمحاباة والمجاملة أو التمييز بين الأفراد، فإن الأمر قد يبدو مستبعداً لنا ولغيرنا من فقهاء القانون العام بوجه عام والقانون الدستوري بوجه خاص، وذلك لسببين:

أولهما: ما تتصف به القاعدة التشريعية التي تقرها السلطة التشريعية

فالتشريع بقواعده العامة التي تنطبق على جميع من يتوجه إليهم خطابه لا يوضع أصلا لإفادة شخص أو أشخاص بذواتهم، وكذلك فإن التشريع بقواعده المجردة لا ينظر عند وضعه إلى الرغبات الشخصية للبعض إذا تناقضت والمصلحة العامة، لذلك فإن اتصاف التشريع بهاتين الخاصيتين هو عاصم من الانحراف بالتشريع (يراجع مقالنا في صحيفة القبس تحت عنوان "العمومية والتجريد عاصم من الانحراف بالتشريع"- العدد الصادر بتاريخ 8/ 12/ 2002).

ثانيهما: صدور التشريع من هيئة مشكلة من عدد كبير من الأعضاء

وهذا ما قاله أستاذنا الكبير الراحل الفقيه عبدالرزاق السنهوري بأنه يفترض ألا تصدر الهيئة تشريعاتها إلا للمصلحة العامة، لا سيما أنها هيئة مشكلة من عدد كبير من الأعضاء، وهي هيئة تنوب عن الأمة فيفترض فيها التنكب عن الأغراض الذاتية.

وقد ورد رأي الدكتور السنهوري سالف الذكر في مقاله المنشور بمجلة مجلس الدولة لعام 1952 تحت عنوان: "مخالفة التشريع للدستور والانحراف في استعمال السلطة التشريعية".

ويضيف الفقيه الراحل في مقاله سالف الذكر أن "التشريع الذي يصدر مستوفيا أركانه من الاختصاص والشكل والمحل والسبب، يعتبر مخالفا للدستور، إذا حاد عن المصلحة العامة، وهي الغاية التي تهيمن على كل تصرفات سلطات الدولة، أو عن الهدف الذي يحدده الدستور للموضوع الذي ينظمه التشريع".

وشهد شاهد من أهلها

والشاهد هنا هو المذكرة الإيضاحية لمشروع القانون التي تحلت بالصراحة والشجاعة في مقدمتها أو سيمفونيتها الرائعة، لتقرر وبالحرف الواحد أن مشروع القانون هو"استجابة لمطالب بعض المواطنين بإتاحة الفرصه أمامهم لاختيار التقاعد المبكر مما يتواءم وظروفهم الحياتية"، ولم تزد المذكرة حرفا واحد على علاقة المشروع بالمصلحة العامة التي يفترض أن تكون مصلحة كل المؤمن عليهم، وليست الأغراض الذاتية لبعض المواطنين، وهو ما يتناقض والمصلحة العامة التي كشفت عنها المذكرة أيضا عندما قررت وبالحرف الواحد بأن "التزام الدولة بتوفير خدمات التأمين الاجتماعي مرتبط بحسب الأصل بتغطية أخطار الشيخوخة والمرض والعجز والوفاة".

كما أقرت المذكرة أيضا أنه ليس من الأخطار التي يؤمن نظام التأمينات ضدها المواطن (التقاعد المبكر المرتبط بأسباب لا صلة مباشرة لها بهذه الأخطار إعمالا للمادة 11 من الدستور)، وهو ما يعني أن مشروع القانون تنكب كذلك مقاصد الدستور من التزام الدولة بتوفير خدمات التأمين الاجتماعي إعمالاً لأحكام هذه المادة، بما ينطوي على مخالفة لأحكامها وأحكام والدستور.

back to top