أحلام مريم طير

نشر في 16-06-2018
آخر تحديث 16-06-2018 | 00:00
No Image Caption
شهرزاد والفتاة الصغيرة

كانت العجوز تجلس على صخرة في جبال أطلس واضعة إحدى ساقيها على الأخرى وهي تدخن غليونها الخشبي الطويل عندما أيقظها وقع خطوات من أحلام يقظتها فرفعت رأسها، وإذ بفتاة صغيرة رقيقة القوام، زرقاء العينين، تقف أمامها. فابتسمت لها العجوز.

“ها أنتِ ذا، يا صغيرتي”

“ها أنا ذا، أمّاه”.

“إنني أنتظرك منذ وقت طويل”.

“وأنا كنت أبحث عنك أيضاً”.

“أخيراً، وقد أصبحتِ هنا. صار بإمكاننا البدء، فالحكاية لم تعد تحتمل الانتظار أكثر من ذلك”.

“فلنبدأ إذاً، كلّي آذان صاغية يا أمّاه”.

استمرت العجوز تسحب الدخان من غليونها حتى امتلأت رئتاها. ثم وضعته جانباً حيث استمرَّ ينفث الدخان بمفرده. بالرغم من أنها أصبحت الآن عجوزاً أشقتها السنون، تعيش في كوخ ناءٍ، بأعالي جبال شمالي أفريقيا، إلا أنها كانت قديماً ملكةً عظيمة، لقد كانت شهرزاد.

يُحكى أن المرأة العجوز، قبل أن تصبح ملكة، كانت عروساً لشهريار، الملك المجنون الذي كان يقتل عرائسه في اليوم الذي يلي زواجه بهن. لكنَّ شهرزاد كانت مختلفة، لقد أشغلته عن قطع عنقها، حيث كانت تروي له كل ليلة حكاية، لكنها كانت تتوقف مع صياح الديك، دون أن تنهيها. لم يكن الملك يدري، بأن لعروسه الجديدة مخيلةً محتجزةً في قفصٍ من الثلج والذهب، وبأنّ كلماتها، ستصبح حصوناً منيعةً في وجه شغفه الشديد بالقتل.

كانت تبدأ حكايتها كل ليلة بعبارة “كان يا ما كان... في قديم الزمان، كان هناك”...أو “لم يكن هناك”. ليلةً بعد ليلة، لألف ليلة وليلة، استمع شهريار لقصص شهرزاد وأحبها، ليلة بعد ليلة، كانت شهرزاد تنهي قصّة لتبدأ قصّةً جديدة، وليلة بعد ليلة، كان شهريار يؤجل قتلها. وبعد مضي ألف ليلةٍ وليلة، تزوج شهريار بشهرزاد، وبعدها بليلة، مات شهريار، وأصبحت شهرزاد الملكة.

حكمت شهرزاد لمئات السنين، وجلبت الازدهار لشعبها، لكنها كل ليلة، كانت تجلس بجانب النافذة، تتأمّل النجوم والكواكب، وتحلم بعوالم أخرى. ولكن ذات ليلة امتطت صهوة حصانها الفضي، بلون سناء القمر، وغادرت القصر. ومنذ ذلك الحين لم يرها أحد، قبل أن تجدها أخيراً الفتاة الصغيرة.

أفرغت العجوز غليونها، نفضت منه الرماد، وراقبته وهو يتطاير في الهواء، ثم احتضنت فتاتها الصغيرة بين ذراعيها، وبدأت حكايتَها.

“هذه قصة آدم وليلى، وابنتهما مريم؛ طفلة استثنائية، طواها النسيان وهي الآن على وشك أن تولد من جديد، استمعي إلى قصة مجيئها إلى الحياة، القصة التي لولاها ما كنتِ موجودةً هنا الآن”.

أخفضت العجوز صوتها:

“كان يا ما كان... في قديم الزمان، كان هناك في الدار البيضاء”...

ليلى

لطالما كان الصيف حاراً في الدار البيضاء، وخاصةً صيف 1981، ذلك الصيف الذي حصلت فيه انتفاضة الخبز، كان واحداً من أشدّ الفصول حَرّاً التي شهدتها المدينة. ضربت المدينة موجة تلو أخرى من الحرّ، وترافق ذلك مع ارتفاع أسعار الخبز، وتزعزع الاستقرار.

تظاهرَ الطلاب وعمال المصانع، والحالمون والعاطلون عن العمل ورفعوا راياتهم وأصواتهم أمام جدران سنتر فيل الدار البيضاء وحدائقه، انتفضوا بوجه عَالَمٍ كان قد نسي وجودهم تماماً.

تركوا وراءهم بيوتاً متهالكة في الأحياء الفقيرة ومساكن العمال؛ في المدينة القديمة، ودرب السلطان، وغار النبوءة، وفي المقالع المركزية التي لا يُستخرج منها شيء، وزحفوا إلى المدينة، حيثُ أحرقوا كل شيء.

لم يكن لانتفاضتهم أفق أو حتى بصيص أمل، فالحياة اليومية في شوارع الدار البيضاء كانت على المحك، لم تكن انتفاضتهم لأجل غدٍ أفضل، بل كانت زحفاً يائساً في وجه طريقة عيشٍ لا تليق بالإنسان، وكان الفشل نصيب من انتفضوا.

هذهِ الدار البيضاء، المدينة التي، حتى التاريخ يخالف فيها طبيعته، ويقف على الحياد؛ فهي لم تشهد يوماً نصراً كاملاً أو حتّى هزيمةً نكراء. الحياة فيها رماديّة، والأيام، والأحياء، تعيش بكل ما فيها، ازدهاراً وركوداً في الوقت نفسه، تحت وطأة إيقاع رتيب، يكاد يقتل كل شيء، حتى الوقت. كل شيء في المدينة اختفى، أو ببساطة، لم يعد لوجوده معنى. كانت الدار البيضاء مدينة من الأخيلة، تسير خلال نومها نحو النسيان.

في ذلك الصباح، زاد تصدّع الشقوق في المباني العتيقة الموجودة هناك، منذ ما قبل الحرب، واكتست الواجهات بغبار الحطام، وما هي إلا ساعات قليلة، حتى وجدت الطحالب الخضر لنفسها مكاناً بين الصدوع المتشكلة حديثاً. في غضون ذلك، كان السنتر فيل المتآكل يناجي من بعيد، فقد كبُرَ في يوم واحد، مئةَ عامٍ.

في ذلك اليوم الحار من حزيران 1981، في ذروة أحداث الشغب، وبينما كانت ليلى نصيري تقف أمام النافذة تشاهد الفوضى العارمة التي تحدث في الأسفل، أتتها رؤيا أسرّتها، لقد رأت المنتفضين ينهزمون، رأتهم ملطخين بالدماء يبكون، ثم تراءت لها عجوز تروي لها قصة. اقتربت العجوز من ليلى، وطلبت منها أن ترى ما بين السطور، وخلف الكلمات. رأت فتاةً صغيرة. فتاةً مصيرها مختلف، مختلف جذرياً وقديم قدم الكون نفسه. فتاة خارقة القوى، تستطيع تغيير مجرى الأحداث، وعلمت ليلى أنَّ تلك الفتاة الصغيرة، كانت فيما مضى، ابنتها.

استفاقت ليلى من رؤياها، متعِّرقة، ومضطربة الحواس، تاقت لتتنفس الصعداء، اشتدَّ توقها هذا وتعاظم إلى حنينٍ لأيامٍ أبسط، وأكثر سعادة، فأغمضت عينيها، وامتصت إصبعها مستذكرة طعم قشر الليمون اللاذع وحلاوة لبه. استجمعت ليلى قواها، لتنعي عالماً علمت علم اليقين أنه آل إلى الضياع.

التقطت ليلى حامل سيجارتها الأسود، وأشعلت سيجارة. شعرت أنها أكثر قوة، وراحت تجوب شقتها بخطًى متهادية، حافية القدمين. وأصدرت الأرضية الخشبية صريراً خافتاً كلما وطأتها قدماها جيئة وذهاباً.

لم تشعر ليلى بالسلام يوماً في هذه الشقة، التي سكنتها منذ ثلاث عشرة سنة، تركتها تتداعى، دون عناية أو اهتمام. في الماضي، كان هذا المكان جميلاً بأرضيته الخشبية المصقولة، حيث يغطي الموزاييك الأسود أرضية ممراته وحمامه، أما الموقد فكان من الغرانيت ومزخرفاً بالموزاييك. لكن الحال مختلف الآن، فالأثاث رث، والمرايا معتمة، ومقابض الأبواب النحاسية بهت لونها من كثرة الاستخدام. بدت شقة مُستأجَرة بشكل أو بآخر. لقد منحها والدها الأرستقراطي هذه الشقة عند عودتها من باريس بصحبة رجل فقير؛ فهو لم يحتمل رؤية ابنته تصارع من أجل لقمة العيش، مدى الحياة.

كان والدها، إبراهيم نصيري، جالساً بهدوءٍ في مكتبه حين طلبت موافقته على زواجها من آدم طير. في مجتمع إبراهيم، هناك طرق مختلفة لتربية البنات، والقسوة الشديدة إحداها، لكنه أدرك أن ليلى لم تكن تستطيع تحمل قسوته، لأنه في هذه الحالة سيفقدها إلى الأبد، الأمر الذي كان سيتسبب بموته. لذا منحها هذه الشقة القديمة، إحدى بقايا ثروته السابقة، التي تقع في الطابق الأخير من مبنىً مصمم على الطراز الحديث، لها شرفة عريضة تطل على مبنى الولاية، أمام البناء يقع متنزه الاتحاد العربي، وإلى يمينه مكتب البريد القديم، وفي نهاية الجادة تقع الكاتدرائية المتداعية.

اعتقدت ليلى في شبابها، أنها تمتلك زمام حياتها، وآمنت بأن بعد العسر يسراً. لم يكن هنالك سببٌ واضحٌ لما جعل حياتها تؤول إلى ذلك الدرك. لم يكن سجل حياتها حافلاً بالأحداث، لا سرٌّ دفينٌ أثقل روحها، ولا حالة طويلة من الكبت دفعتها لتعيش حياتها بهذه الطريقة الروتينية. كمغنٍّ يخفض النغمة، تركت ليلى وتيرة حياتها تنخفض لتصل إلى ما هي عليه الآن، حياةٍ فارغة، ورحمٍ فارغة.

كان الثوار يضربون بأقدامهم على الإسفلت الساخن لشوارع الدار البيضاء.

فكّرت ليلى أنه مرت ثلاث عشرة سنة على سكنها هنا، ثلاث عشرة سنة من الحرمان. في الواقع لم تكن سنوات شبابها التي مضت بعزلة من تصرخ في داخلها الآن، ولا سنوات عمرها التي ضاعت هباءً منثوراً دون أن تحصل منها شيئاً، ولا روحها، بل ندمها الدفين.

لقد لامت نفسها على عودتها إلى الدار البيضاء، بسبب حلم راودها ذات ليلة، منذ ثلاث عشرة سنة، حلمٍ بشجرة البرتقال، وبالأريج النقي لأزهارها الفريدة. عندما استيقظت ليلى من ذلك الحلم، عَلمت أنها وآدم يجب أن يعودا إلى الديار. لقد كان هذا الحلم رغبةً من المفترض أن تُقمع، مهما بلغت درجة إلحاحها، لكن آدم وافق على العودة معها، تاركين كل شيء خلفهما. كانت هي الملامة على ما آلت إليه حياتهما الآن.

دخلت ليلى غرفة نومها، وقفت أمام المرآة، ولاحظت علامات مرور السنين على وجهها وجسدها. لطالما حملت ليلى في داخلها الإحباط والحزن. وبنظرها إلى المرآة، أطلقت العنان لحنينها إلى الماضي، إلى الشقة الباريسية الصغيرة، إلى النقاء. بعيداً عن باريس كانت ليلى غير راضية، ودائمة القلق، وتعيش حالة نكران مستمر للحاضر.

حدّقت ليلى إلى بطنها المسطح، وفهمت لماذا لم تمتلئ رحمها بطفل من قبل. لقد أُشيع أنها ملعونة، وأن العين الشريرة كانت تمارس ألاعيبها عليها. لكن، حقيقة الأمر أن ليلى لم تكن واثقة أنها تريد طفلاً. لقد بدأت تشعر أنها ملعونة. في جوف الليل، عندما كان زوجها يقعُ صريعَ إحدى نوباته، وتنطوي على نفسها من الخوف معتصرة معدتها، في أوقاتٍ كهذه، نعم، آمنت باللعنة. مع ذلك، كان أثر رائحة أزهار البرتقال، من طفولتها – كما يفعل الآن– يطغى على أي أثر يمكن أن يخلفه الحلم.

فتحت ليلى الأبواب الزجاجية الكبيرة، وخرجت إلى الشرفة. خلف الشجيرات وأقفاص الطيور، شاهدت ليلى الساحة المركزية وهي تتحول منطقة عنف وصراع. خيّم الضباب على الساحة، تلبدت السماء بالغيوم، وثَقُلَ الهواء. تجمدت ليلى في مكانها، عندما طوقت مركبات بيض بلا لوحات، الساحة، بينما كانت طيورٌ سود عملاقة تحوِّم في الأعلى. فجأةً، فُتحت أبواب المركبات، وانقضّت الطيور السود على الناس من السماء. مخلوقات عملاقة، بأعينٍ حمر وأجسادٍ مغطّاةٍ بالفرو، تجمّعت لتشكّل كتيبةً متراصّة. عندها هجمت الشياطين تتضور جوعاً.

أحرقتْ، حطمتْ، والتهمتْ كل شيء صادفته. حفرت حفراً هائلة، ورمت فيها الجثث كالقمامة، وراحت ترقص حول نيران أشعلتها للمتعة ليس إلا، كان مشهداً يُفقِدُ المرءَ صوابَهُ. ضربت الشياطين بقبضاتها العملاقة الأطفال، قتلت بجذل، اختطفت المتظاهرين، رجالاً ونساءً، ووضعتهم في مركباتها البيض ثمّ حلّقت بهم– بأجنحةٍ من الصوف السميك– إلى السماء.

لم يُعثر على جُثثِ المخطوفين. آلاف القتلى، وآلاف المعتَقَلين، لم يعد منهم إلا القليل، وحتى من عادوا لم يكونوا كسابِقِ عهدِهم، فقد حقنت الشياطين دماءهم بسُمٍّ أسود أرهقَ أرواحهم، وتركهم في ركود كئيب.

الشياطين موجودة، الشياطين حقيقية، إنها هنا، ارتعشت ليلى خوفاً، وتساءلت أين آدم، وهل ستشعرُ بدفءِ جسدهِ مجدداً. شاهدت ليلى المتظاهرين يستسلمون للشياطين، وعرفت عندها أن الانتفاضة قد فشلت، لأنها كالمدينة –مسقط رأسها– خاسرة، ومنهزمة مُسبقاً.

كانت ليلى على وشك أن تغلق أبواب الشرفة عندما رفعَ شيطانٌ رأسهُ ونظر إليها، وبدلَ أن تشيح بنظرها عنه وتختبئ، حدّقتْ إلى عينيه الباردتين، الخاليتين من الإحساس. لم تعلم ما الذي دفعها وقتها للتحديق إلى عينيّ الشيطان، لحظةُ تهوّر، شجاعة مفاجئة لامرأةٍ كانت قد نسيت تماماً ما هي الشجاعة، وميضٌ من الذاكرة لِجنّةٍ فُقِدَت، من قبل أن توجد. تعالَ إليّ، لمعت عيناها، تعال، لعلّك ستندم إن لم تفعل.

حدّقَ الشيطان إلى عينيها، وارتسمت على وجههِ ابتسامةٌ مخيفة.

back to top