هل نشهد ولادة عالم متعدد الأقطاب؟

نشر في 12-05-2018
آخر تحديث 12-05-2018 | 00:00
الأمم المتحدة
الأمم المتحدة
أينما نظرت، تجد الناس يدقون ناقوس الخطر بشأن تراجع القوة الأميركية، أما مصطلح «عالم متعدد الأقطاب»، الذي كان في الماضي مجرد فكرة حالمة، فيردده مراراً اليوم أصدقاء الولايات المتحدة وأعداؤها على حد سواء.

سبق أن مررنا بوضع مماثل من قبل، فعقب الحرب العالمية الثانية، صارت الولايات المتحدة القوة العالمية العظمى بدون منازع، كانت الدولة الوحيدة التي تملك أسلحة نووية، وكانت إحدى الدول القليلة التي شاركت في الحرب وخرجت منها بدون خسائر تُذكر في الوطن، فقدت الولايات المتحدة نحو 400 ألف جندي، فضلاً عن عدد صغير من المدنيين في الحرب.

في المقابل، خسر الاتحاد السوفياتي نحو 11 مليون جندي ونحو سبعة ملايين إلى 10 ملايين مدني، وبينما كانت أعمال إعادة البناء تتواصل في المدن السوفياتية والأوروبية، ازدهرت المدن الأميركية، فبدا واضحاً أن المستقبل برمته ملك للولايات المتحدة.

بعد مرور 26 سنة على سقوط الاتحاد السوفياتي، انتخب الأميركيون رجلاً آخر وعد بجعل الولايات المتحدة عظيمة مجدداً، وهكذا أُعيد إحياء مفهوم تعدد الأقطاب من أيام نيكسون، تعددُ الأقطاب مصطلح باهر تعريفه بسيط يشمل فكرة ألا تكون القوة حكراً على دولة واحدة بل موزعة على دول عدة. وتبدو الصين المنافس الأكثر احتمالاً لسيادة الولايات المتحدة، لكن النظام المتعدد الأقطاب يجب أن يضم أكثر من منافس، وتُعتبر روسيا، والهند، وألمانيا بعض الدول المؤهلة لهذا الدور.

تكمن مشكلة المناقشات التي تتناول تعدد الأقطاب في أنها تكون غالباً مشوبة بأفكار متحيزة عن الطريقة التي يرغب فيها الناس أن يتطور العالم بدل الطريقة التي يسير بها فعلاً، عندما يتحدث السياسيون الروس والصينيون عن عالم متعدد الأقطاب، يشيرون إلى العالم الذي يودون بلوغه لا العالم القائم اليوم، ولا عجب في أن يكون العالم الذي يرغبون فيه عالماً يحظون فيه بحصة أكبر من القوة، مقارنةً بما يتمتعون به راهناً. ويُعتبر هذا مفهوماً مفيداً جداً لدول مثل روسيا والصين، بما أنها تملك تاريخاً من عدم الثقة وضرورات جيو-سياسية حقيقية جداً يدفعانها نحو منافسة تتساوى فيها المكاسب والخسائر. كذلك يميل مؤيدو هذا المفهوم إلى استغلال الولايات المتحدة ككبش فداء أو ماصٍّ للصدمات مصورين أن كل مشاكل العالم تنبع من مستوى القوة التي تتمتع بها الولايات المتحدة عالمياً. ويُعتبر العكس صحيحاً أحياناً أيضاً. أما داعمو النظام الأحادي القطب، فيتجاهلون غالباً النكسات في السياسة الخارجية الأميركية لأن هذه النكسات لا تنسجم مع نسختهم غير الواقعية عن الهيمنة الأميركية.

ولكن هل نعيش في عالم متعدد الأقطاب أم أحادي القطب؟ يشكّل هذا سؤالاً شخصياً لا سياسياً، ويُعتبر هذا السؤال بالغ الأهمية لأن الجواب عنه يؤثر في طريقة فهمنا الأزمة الكورية الشمالية، والتطورات في إيران، والمناوشات التجارية مع الصين، فإذا كان العالم أحادي القطب، تكون القصص التي تتصدر الأخبار اليوم مجرد أزمات عابرة تسعى الولايات المتحدة لإخمادها ولن يكون لها تداعيات تُذكر حتى بعد خمس سنوات من اليوم، أما إذا كان العالم يسير نحو تعدد الأقطاب، فتمثل هذه المسائل تجليات للمنافسة بين الولايات المتحدة وخصومها الذين يزدادون بروزاً، ويعني هذا أن نظرة ما بعد عام 1991 إلى العالم أصبحت قديمة.

القوة المحرّكة

لعل الطريقة الأسهل لحل هذه المسألة طرح السؤال: أي دولة تحرك هذه الأحداث؟ في شبه الجزيرة الكورية، كان كيم يونغ أون مَن سرّع برنامج بيونغ يانغ للأسلحة النووية، لكن الولايات المتحدة، هي التي نشرت ثلاث حاملات طائرات في المنطقة وهددت بإنزال النار والغضب على هذه المملكة المعزولة ما لم تتراجع. نتيجة لذلك، تعقد الكوريتان الشمالية والجنوبية مفاوضات اليوم. حتى الصين العنيدة تتعاطى بحزم مع الشمال. في الشأن الإيراني، لا تريد الدول الأوروبية، وفي مقدمها فرنسا وألمانيا، خسارة قدرتها على التمتع بما أراده الأوروبيون دوماً من إيران: النفط البخس الثمن، أما في المسألة الصينية، فكانت الولايات المتحدة مَن اتخذ الخطوة الأولى لإعادة صوغ العلاقة التجارية الثنائية لأن الأميركيين يتمتعون بسلطة أكبر في هذه العلاقة: تحتاج الصين إلى التصدير إلى الولايات المتحدة أكثر من حاجة هذه الأخيرة إلى الاستيراد من الصين.

بكلمات أخرى، لا تزال أعمال الولايات المتحدة تحرّك التطورات العالمية، ورغم كل أخطائها (مثل حرب العراق) ومشاكلها الداخلية (مثل تراجع القدرة الشرائية للطبقة الوسطى)، تُعتبر الولايات المتحدة في عام 2018 أكثر قوة مما كانت عليه عندما بدأت المناقشة الأخيرة للعالم المتعدد الأقطاب خلال عهد إدارة نيكسون. ففي عام 2018، لا نشهد أي نظير لحرب فيتنام أو ما يقارب معدل الاضطرابات الاجتماعية الداخلية في الولايات المتحدة في أواخر ستينيات ومطلع سبعينيات القرن الماضي. تتحلى الولايات المتحدة بميل إلى الهستيريا تعمد البيئة الإعلامية الراهنة إلى تضخيمه، فضلاً عن أن العالم مليء بالطامحين إلى المنافسة الذين يودون استغلال أزمة الثقة هذه لتنفيذ أجنداتهم الخاصة.

افتراض مستبعد

رغم ذلك، لا تزال الولايات المتحدة القوة الأكثر بروزاً في العالم، وقد لا يكون هذا هو الوضع السائد اليوم دائماً. على سبيل المثال، إذا كانت «جيوبوليتيكال فيوتشورز» مخطئة بشأن ضعف الصين وروسيا الكامن، يصبح العالم المتعدد الأقطاب أقرب مما أقترح. لكن هذا افتراض مستبعد. ففي عام 2018، ما زال العالم أحادي القطب، ولا تزال الولايات المتحدة مركز الجاذبية العالمي، كذلك ينعكس تأثير أعمالها على العالم بأسره. لا يعني ذلك أن هذه فكرة مطمئنة، إذ تترافق القوة الكبيرة مع مسؤوليات كبيرة، لكن عمل المحلل لا يهدف إلى طمأنة الناس بل إلى تحديد موقع القوة الكبرى في الوقت الراهن.

● جاكوب شابيرو- جيوبوليتيكال فيوتشورز

back to top