أشباح هذه المقبرة

نشر في 04-03-2018
آخر تحديث 04-03-2018 | 00:00
 ناصر الظفيري "عينان خضراوان تمتلكان ما أخفي من النهوند / قلبٌ موجع بالحب يأخذني لذاكرة "العشيش" صبية بضفيرتين / وعلبة ملأى بأطياف الصباح سرقتها من قلبها / وزعت في دمها سحابة. في روحها دفء المواويل التي نضجت عصافيري على أغصانها/ خيط شفيف صمتها / كانت تقشر لي حنين الليل / تلهمني حقول الحب بين خطى المآذن / أنحني لأشم عطر حنانها/ فيمسنيّ وجع الكتابة".

ليست الكتابة عن تجربة هذا الشاعر الاستثنائي صعبة، لكنها بالتأكيد موجعة كشعره. دخيل الخليفة، الشاعر الهادئ الوديع لا أحد بإمكانه قياس درجات الرعب في قصيدته. عرفته قبل عيون على بوابة المنفى عام 1993، تاريخ إصدار ديوانه الأول، وعشت تجربته عملا عملا، مرورا ببحر يجلس القرفصاء، صحراء تخرج من فضاء القميص، يد مقطوعة تطرق الباب، وصاعدا إلى أسفل البئر.

دخيل الخليفة شاعر يميزه هذا النسق الشعري المتصاعد من عمل إلى آخر، تطوره الشعري وقدرته على ابتكار صوره التي تخصه وتشكل سمته الشعرية. ورغم انحسار الشعر عن منصته التي تسيَّدها زمنا طويلا في الثقافة العربية، ورغم معاناة الشعراء "البدون" في وسط ثقافي شبه معادٍ لتجاربه وتجارب بقية الكتاب، فإن الخليفة فرض صوته فيما انسحبت مجموعة كبيرة من شعرائنا الجميلين تحت وطأة اليأس، أو انخفض نتاجهم بشكل يثير الحزن.

في تجربة دخيل الخليفة الأخيرة (أعيدوا النظر في تلك المقبرة)، والتي اقتبست منها القطعة أعلاه، هناك عمل مُحكم يستخدم فيه الشاعر الصورة المبتكرة، بعيدا عن الخطابية والمواجهة المباشرة مع المعاناة الوجودية التي يعيشها ويعيشها معه رفاقه في أتون القهر اليومي.

في كل لوحة فنية وكل قطعة موسيقية هناك إطار من ألم ليس هو همّ القصيدة الأكبر، لكنه عالمها الذي يحيط بها، حزنها الذي يتقاطر بين أسطرها، وعلى القارئ أن يُعيد النظر في القصيدة/ المقبرة.

"لا أبحث عن مفردةٍ تحت غبار النص/ ولا عن نهرٍ تركني حقلاً يابساً/ آمنتُ أن المقبرة/ شرفة لحكايات لم يروِها الموتى"

الذين غادروا وهم يحملون همومهم إلى مقابرهم في البلاد وخارجها كانوا كتبا وحكاياتٍ لم يسعفهم الوقت والألم لأن يخبرونا بها. غادروا وفي جوف كل قفص صدري كتاب من ألم وخيبة. في كل صورة يرسمها دخيل هناك قراءتان: أولى للشعر وعطشه للفن الشعري وصوره الفنية، وثانية لنا نحن الذين نرى ما هو خلف هذا الفن الشعري، نحن الذين نحفر قبورنا بمعاول اليأس، وننتظر لحظات النهاية ندفن حزننا وحكاياتنا التي لم يستمع لها سوانا.

"في المقبرة/ الموتى تسللوا من قلب الحارس / ميت كان يحلم أن يتدثر بالنجوم/ ميت يحك حزنه بجدار معتم/ ميت يتحدث عن شجرة صغيرة / أهلها يسرقون أوراقها/ ميت ينتظر برتقالة في مهد رَجل/ ميت بلا ملامح/ ولا عنوان ثابت/ ميت باسم مزوّر!".

عن ديوان "يد مقطوعة تطرق الباب" لدخيل الخليفة قبل سنوات كتبت هنا عن قدرة الشاعر على الإمساك بـ"ثيمته" التي يريد، وكانت ثيمة أطلق عليها باختين وكريستيفا "Grotesque"، وثيمة الوجع Agony، التي لازمت الشاعر الخليفة في هذا الديوان تذكرني بنوفيلا "موت إيفان إيليتش" لتولستوي، والتي كتبها وهو في منتصف الخمسينيات من عمره عن رجل يعيش أيامه الأخيرة، لكن تولستوي عاش بعد النوفيلا خمساً وعشرين سنة. ربما الشاعر هنا أصدق من الروائي وهو يرى أن حياته التي يعيشها تحت هذا الظرف العبثي والساخر ما هي إلا مقبرة متنقلة تتساوى معها الأيام التي سيتنفسها لاحقا.

"الأرض/ قبر كل نجمة خضراء/السماء التي تستظل بضحاياها /كفن كل ومضة بانتظار الحصاد".

back to top