حبر و ورق

نشر في 10-02-2018
آخر تحديث 10-02-2018 | 00:00
No Image Caption
جنون التصوّف

من عادتي قبل الشروع بغلق باب دكاني الخشبـي أن أدون حساباته اليومية. وفي أحد الأيام التي تلت خروج جيش الخليفة، وبعد أن دوّنت في سجلي الخاص بالدكان بعض الأمور الهامة، وقف رجل في العقد السادس من عمره ضعيف البنية، مجعد الوجه، أبيض الشعر واللحية، ذو حاجبين كثيفين، أنفه ضخم قليلاً، ثيابه رثة بالية، عرفت من ملامحه أنه ليس بغدادياً، وقف على باب حانوتي يلقي عليّ السلام موجهاً كلامه إليّ وكأنه يعرفني منذ مدة قائلاً:

«اعلم يا أخي أني قرأت عليك السلام وقد رددته لي، فسلمت من غدرك، وأخذت منك العهد على الأمان».

ثم تريث قليلاً بعد أن أومأت له برأسي بالإيجاب زارعاً البسمة على شفتّي، إلى أن مضى في كلامه:

«يا أخي إن الحقيقة هي ملكك، لا يستطيع أحد أن ينتزعها منك، واكتشاف الحقيقة يبدأ باكتشاف ذاتك. تذكر دائماً أن الواحد الأحد الوجود المطلق هو سبب وجودك وأنت سبب في إظهار وجوده ومعرفته، فكن مرآته تسمع ما يسمع وترى ما يرى، ولا تتكلم إلا به وعنه وله. ولتعلم أن أعظم فضيلة هي الصدق، صدقك مع ذاتك، وصدقك مع لسانك، أنا لا أدعوك للشك في ما تعتقد وهذا ليس بالأمر الصعب في أن تكون من أهل الشك، فالمشككون يأتونك في كل مكان وقد يأتونك وأنت في مكانك، ولكني أدعوك لأن تكون من عشاق الحقيقة تكتشفها بذاتك، فكن أنت كما تريد وليس كما يريده لك الآخرون، فلتبقَ بعيداً عن أي معتقد ولا تكن جزءاً منه أو تابعاً لأفكار غيرك، دع الحب يسكن قلبك فتضيع فيه فتدور حوله، حينها ستنظر إلى الأمور بطريقة مغايرة، فكن مراقباً صامتاً لمحيطك ولا تخن ذاتك».

عندها توقف عن الكلام وهمّ بالرحيل، غير أني نهضت من مكاني مسرعاً ماسكاً يده دافعاً إياه إلى داخل الدكان، مصرّاً على إكمال حديثه العذب. وبعد أن ارتوى بكوب من الماء البارد الممزوج بماء الورد ومضغ حبتي تمر من تمور الكوفة، أكمل ما بدأ من حديث:

«يا أخي إن ابتليت بعدو تجنبه بالإحسان إليه، عندها قد تنقلب العداوة محبة، وإن لم تنقلب تكن على الأقل قد أصدقت نفسك، وإن هاجمك الناس ونعتوك بالكفر والضلال وأنت على حق فافرح لأن الشجر المثمر يُرمى دائماً. فلتكن ثائراً على كل ما هو تقليدي، ثورة تبدأ من الأعماق إلى السطح، ثورة ما تأصل في الإنسان من سخف الواقع وافتقاره إلى ما ينعش ويضمن الفهم الغريزي للحياة. لتكن تلك الثورة حركة نزوح لطيفة من الداخل إلى الخارج، وما هذه الغريزة سوى قوة البحث عن الوجود الأصلي الذي يشترط وجوده كل وجود جزئي. فلتفهم أن ثمة في داخل كل كلمة من كلمات النصوص الدينية معاني خفية فلا يؤتى تفسيراتها إلا المقربون والعارفون بمعنى الحق المخفي عن أبصار المقلدين، ولا تظهر تفاعلاتها إلا لمن يرى ببصيرته، فيعلو بها سعياً وراء ينبوع الينابيع».

قاطعت كلامه قائلاً:

«عذراً يا سيدي هل لي أن أعرف من أنت؟ وما غايتك هنا؟ ولمَ تكلمني أنا بالذات؟».

كانت أسئلتي تنهال عليه دون أن يلتفت نحوي أو حتى يومئ إليّ بأي إشارة، غير أن هدوءه أجبرني على الصمت ثم أردف قائلاً:

«أَوَتريد أن تعلم من أنا؟!! وماذا يهمك في أن تعرف؟ قد أقول لك من أنا ويكون كذباً هل لك أن تعرف ذلك؟! إن المعرفة تحتاج إلى دقة وبحث لتصل إليها، لا يمكن لأحد أن يصلك بها، عليك أن تغيّر ما أنت عليه فتبحث في ذاتك عن المعرفة الحقة، فلتستمع إلى ما سأقوله علك تدنو من أبواب المعرفة الحقة التي ترجوها».

ثم دنا مني قليلاً وأكمل حديثه الغريب ولكن بصوت أخف:

«يا أخي لا تظلم أحداً، وإذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر من هو أقدر وأعظم، وإذا شعرت يوماً بالقسوة، فامسح على رأس من هو ضعيف أو يتيم صغير، ولسوف تدهش كيف للمسح أن يمسح القسوة من القلب فينفطر، أَوَلم يكن يسوع الناصري يقيم الميت ويشفي المريض بمسحة خفيفة من يده؟ حذارِ والجدال فكلا الطرفين يخسر، فإن انهزمت تخسر كبرياءك، وإن فزت تخسر الشخص الآخر. ولا تكن أحادي الرأي، فمن الجميل أن تؤثر وتتأثر، ولكن إياك أن تذوب في رأي الآخرين. إنك لا تستطيع أن تغير قناعات الناس، ولكنك بكل تأكيد تستطيع أن تستحوذ على قلوبهم وهم لا يشعرون، ليس بالسحر ولا الشعوذة، ولكن بابتسامتك وعذوبة لفظك تستطيع . وإن وقع في قلب الناس نحوك شك، وضّح وبرّر ودافع عن نفسك، ولا تكن فضولياً تدس نفسك في كل أمر، وتعلّم أن تترفع عن كل ما هو صغير، فتكبر بعين الناس. ولا تحزن على ما في الحياة الفانية بل احزن على نفسك إن تهت ولم تعلم كيف تجد ذاتك، ولا تتكدر لأن الفرج قريب، فإذا اشتد سواد السحب فاعلم أنها عما قريب ستمطر. لا تبكِ على الماضي فيكفي أنه مضى، فمن العبث أن نمسك نشارة الخشب وننشر. وانظر للغد واستعد، وانظر إلى نفسك وافتخر وكن عزيزاً، فكما ترى نفسك سيراك الآخرون، فإياك لنفسك يوماً أن تحقر، فأنت تكبر حينما تريد أن تكبر».

إن الباري جل ذكره ميّزنا عن سائر مخلوقاته بالعقل، به نستطيع التغلب على الشهوة، فليكن عقلك قادراً على تنظيم هواك، فاجعل عزيمتك حرة بحيث تغار لنفسك، فتقوى عليها، وتتجرع بالصبر رغم مرارته لتدرك خير العيش. فلتبقَ منزلتك بالمستوى الذي أراده لك الخالق فتشعر أن ألم الشهوة أعذب من طاعتها وخير وأنفع من مرافقة الهوى. لا تكن كالحيوان البهيم يجري وراء أهوائه، فحتى الحيوان يميز بغريزته بين مواقع ما يضره وما ينفعه، فيؤثر النافع على الضار، وأنت أُعطيت العقل لهذا المغزى، وأنك لم تُخلق للهوى وإنما لأمر أعظم، لن تناله إلا بمعصية ما تهواه، ومخالفة ما تشتهيه. عين الهوى عمياء ستلزمك عاراً لا يمكن غسله بالماء، ما أطاع أحد هواه إلا وجد في نفسه ذلاًّ وأورثه ذماً. فلتعلم أن الهوى ما خالط شيئاً إلا فسد، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة، وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء وأوقع في قلبه الشك، وإن وقع في سلطان أخرج صاحبه إلى الظلم وصده عن الحق، وإن وقع في القسمة خرج من قسمة العدل إلى قسمة الجور، وإن وقع في الحكم والولاية أخرج صاحبه إلى خيانة أمته حيث يولي بهواه ويعزل بهواه، وإن وقع في العبادة خرجت عن أن تكون قربة ومودة. فلتكن لنفسك المقدرة على محاربة أهوائك، فاطلق العنان لعقلك ليحكم، ولكن لا تفرغ قلبك من المشاعر، فوازن ما بين عقلك وقلبك، وإن احترت في أمر ما فاختر ما يميل إليه قلبك، ولا تنسَ يا أخي أن الله هو الأول والأخير، فعليك الرجوع إليه في كل شيء، والاعتماد عليه».

وهنا أدرك حاله وتوقف فجأة عن الكلام وكأنه تنبه لنفسه حين بدأ يتحدث في أمور لا يجوز البوح بها لمن لا يعرفه، فهّم واقفاً وغادر دكاني دون أن يضيف شيئاً، وما أن صحيت من نشوة كلامه كنت قد وجدته مغادراً دكاني مسرعاً من غير أن يلتفت يمنةً أو يسرة.

***

أخذ كلام زائري مأخذاً مني، فقد جلست في دكاني دون أن أفعل شيئاً غير التفكير بحالي وأحوالي، بزوجتي وطفلتنا الصغيرة. عاودتني ذكريات الطفولة وكل ما مررت به إلى أن التقيت بضيفي الكهل، وأخذت أحلل كل الأمور الهامة التي عايشتها، بدءاً باتهامي بالضلال والابتعاد عن مسلك الدين والسنة! إذ منذ أن كنت أتتلمذ على يد أفضل مشايخ بغداد لتحفيظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة وأنا أشعر أن أمور الدين وفهمها لا يمكن أن تكون بهذه البساطة التي تعوّد مشايخنا على تعليمها للناس، فقد كنت أناقش وأحلّل وأعترض. كنت أدرك من أعماق ذاتي أن للصيام نوعاً آخر غير صيام الطعام والشراب، صوم يهذّب النفس ولا يجبرها، يريح الذات ولا يتعبها، صوم عن الكره والحقد، صوم ينبذ قتل الأبرياء والتحريض على الحروب، صوم يدعم الحياة من خلال فهم الحرية والابتعاد عن الرذائل. وما إن أصبحت في العشرين حتى زُجَّ بـي في أحد أقبية قصور الخليفة بتهمة الابتعاد عن الصلاة بالرغم من أنني كنت مواظباً عليها ولكن ليس علانية أو في المساجد المنتشرة بكثرة في أنحاء المدينة، دون أن أنسى طعم السوط كي يعيدني إلى الصراط المستقيم.

وبينما كنت غارقاً في تفكيري إذا بغلام يدخل دكاني لاهثاً يحثني أن أسرع الخطى نحو داري منذراً بكارثة. وبلمح البصر كنت أقف على مشارف الحي الذي فيه داري لأجد النار تلتهم البيوت الطينية التي ساعدت سعف النخيل التي تغطي أسطحها في تقويتها. لم تكفِ سواعد أهل المدينة الذين هبوا لمحاولة إطفاء النيران بواسطة المياه المحمولة بأواني البيوتات الفخارية على اختلاف أشكالها وأحجامها في إخماد الحريق الذي قضى على الحي بأكمله بمن فيه من بشر، ولم تسلم زوجتي وطفلتي التي لم يمضِ على ولادتها أيام! لم يكن بيدي حيلة إذ لم أستطع الوصول إلى داري لإنقاذ عائلتي الصغيرة.

القدّيسة بغداد

شرعت أولى ندف الثلج الشفيف تنسدل على مطار أتاتورك بعد دقائق مــن هبوط الطائرة التي تقل طارق قادمـاً مـن بغداد، في رحلة الترانزيت التي ستمكث في العاصمة التركية اسطنبول بضع ساعات. ومـن ثـم تيمم شطر العاصمة السويدية ستوكهولم . كان الجو فاحش البرودة بنحو لم يعهــده البتة خلال جميع إجازاته التي دأب على قضائها خلال مثل هذا الوقت من كل عــام في وطنه العراق وحتى في العاصمة اسطنبول. لقد تجمدت المياه في الصنابير، في الشوارع والأزقة، عند جداول الأنهار الصغيرة، ولم تنصهر إلا بعدما تتكبـد الشمس السماء في ساعات الظهيرة، وهي تنشر دفئهـا الخجــول الـذي بالكاد دحر هذا الضيف ثقيل الدم. لم يستطع طارق المضي إلى أبعد مـن عتبة الباب خلال الأيام الأخيرة من الإجازة، فمكث هو والعائلة أسارى الغرف محكمـة الإغلاق وملابس الصوف الملتحفين بها، ومتحلقين حـول المـدافئ النفطية والزيتية ليحظوا بأكبر قدر من الدفء.

توجه طارق وزوجته وابنتـاه، بعدما بركت الطائرة، صـوب النافذة المخصصة لاستقبال القادمين في رحلات الترانزيت. أعلمته موظفة الجوازات بأن الملاحة في المطار ستتوقف على الأرجح، إذا ما استمرت الثلوج في التساقط خلال الساعات القادمة، وسيكون عليه انتظار التعليمات من شركـة الطيران، لتقرر للمسافرين الخطوة التالية في حال إلغاء الرحلة أو تأجيلها. كانت تلك التطورات هي السيناريو الأسوأ الذي هابه طارق طيلة اليومين الأخيرين مــن إجازته، رغبة منه في الوصول إلى منزله في ستوكهولم على وجـه السرعة لأخــذ قسط من الراحة قبيل الالتحاق بعمله. اعتراه قلق شديد وهـو ينتظـر بفــارغ الصبر أحدث المستجدات عن مصير رحلته، وتفاقم هـذا الإحـساس في تلك اللحظات بالذات، ساعات الانتظار في محطة الترانزيت الأكثر ضجراً بالنسبة إليه كونها أوقاتاً ضائعة ومحسوبة من العمر، مع أنها شرّ لا بد منه ولا بديل عنه للوصول إلى مختلف المقاصد في شرق الأرض وغربها بمركبات عملاقة تمخر عباب السماء على ارتفاعات مهولة وبسرعة مجنونة.

طفق طارق تحت نازعة الكآبة والإجهاد الذي داهمه في تلك الساعة، ورغبة منه في وأد الشعور بالملل والكسل، يـسلخ الوقت بالتجوال في أروقة المطار والسوق الحرة. أخذ يعاين ألوان الهـدايا والحلويـات التي سيقتنيها لـزملاء العمل عند تأكيد موعد العودة، وشرع يطالع بريده الإلكتروني ويتصفح بعض المواقع الإلكترونية في حاسوبه الشخصي. وبين حين وآخر، كـان يخرج هاتفه المحمول من قمصلة الجلد المئتزر بها ليعبث به، متبحـراً بالصور التي تعشق ابنته الصغيرة هبة التقاطها في أية مناسبة أو من دون مناسـبة، ثـم مـا يلبث أن يدفنه في جيب قمصلته، محاولاً أخـذ سنة قلقة مـن النوم إن قدر في أحــد الكراسي لصق باب المغادرة القريب من مـدارج الطائرات. لم يـصبر طـارق، الشغوف بالحركة، على الانتظار المشوب بالقلق حول مآل الرحلة، فيمم شطر النافذة الزجاجية العملاقة التي تحد قاعة وصول القادمين عـن مـدرج المطـار، محدقاً في الثلوج وقد بقّعت مساحات واسعة مـن الأرض، واعتلـت نـواصي وأجنحة الطائرات الجاثمة على نحو منتظم في تلك المساحات المهولـة. كـان ذلك نذيراً بشل حركة الطيران بالكامل، وتأخر الرحلة الواصـلة إلى منزله ومقر عمله في السويد يقيناً يوماً أو يومين في أحسن الأحـوال، ولذلك فعليه الاتصال برئيسه في الشركة لإعلامه بهذا الأمر.

شرع طارق يتساءل في قرارة نفسه وهـو يرى الأمواج البشرية الذاهبة والآيبة في أروقة المطار، رجالاً ونساءً وأطفالاً على تبـاين أعمارهم ومشاربهم وهيئاتهم وقد وصلوا للتـو أو يهمون بالمغادرة، لو أن أحــداً منهم يـشاطره الشعور بالحزن والكآبة التي تعتريه في كل مرة ينقلب فيها إلى السويد في إجازة العودة من وطنه الأم. كان متيقناً أنه الوحيــد بين تلك المئات مـن الجموع البشرية التي تجوب أنحاء المطار في تلك الساعة المثلجة، الذي يخامره مثل هـذا اللون من الإحساس الغريب المتـضاد: عــشق الوطن والـذوبان فيـه وتعذر الاستقرار النهائي فيه لإسدال الستار على مغامرة الغربة التي جرشت أكثر من عقدين من عمره. كانت إجازة هذا العام بالذات هي التي وضعت النقاط على الحروف بنحو قطعي غير قابـل للاستئناف، بعــد أن تيقن طارق المهمـوم والمبهوض الآن، أن العودة والاستقرار في الوطن الذي أنجبه، وأنشأه، ونمى رجولته، قد أضحت ضرباً من المستحيل.

- سنبيت في إسطنبول ليلة أو ليلتين على الأرجح! قال طارق مخاطباً زوجته منار.

- أكيد. الثلوج بدأت تزحف كأننا في السويد وليس في تركيا.

- هل جلبت ما يكفي من الملابس في الحقائب الشخصية؟

- جهزت بيجامة لك ودشداشـة شتوية مع روب لي وللبنـات، وجلبت سراويل طويلة وملابس داخلية من باب الاحتياط.

- رحم الله والديك!

- ووالديك!

لم يطل المقام في المطار طويلاً، إذ سرعان ما تناهى إلى مسامع المنتظرين نـداء صادح بمختلف اللغات يحث المسافرين على متن الخطوط الجوية التركية التي كان من المقرر لها مواصلة الرحلة إلى السويد على التوجه صوب أحد مداخل المطار. كانت بانتظارهم حافلة تقلهم إلى فندق قريــب يقضون فيـه ليلتـين في الأقل ريثما تتحسن ظروف الطقس وتعود الملاحة الجوية سيرتها الأولى. تناول حقيبته الشخصية الصغيرة التي تأوي الحاســوب المحمـول والشاحن وقارئاً إلكرتونياً وملابس داخلية وبلوزة صوف سميكة. وجلس لصق زوجته في الحافلة. اقتعدت ملك، البنت الكبيرة التي ظهرت عليها ملامح الأنوثة التامة هذا العام، وهبة التي تصغرها بأربعة أعوام، في كرسيين قبـالتهما. لاحـت البنت الكبرى في حال من الكآبة تظاهي ما يخالج طارق الآن، بينما بدت الأخرى غير آبهة بمل يحصل، وتتطلع بشغف لتجربة الإقامة في أحـد الفنـادق، لون الحياة الذي تعشقه لأنه يهبها تجربة جديدة مـن السكن والمبيت والخدمة والأتيكيت. لم ينبس طارق ببنت شفة، ولم ينتبه إلى نداءات زوجته الجالسة لصقه لمشاهدة ندف الثلوج التي أخذت تتشرنق على الأشجار الوارفة التي تحف بشطري الطريق، مشكلة لوحة بانورامية تأسر الأنظار: الطبيعة الخضراء الموشاة بأزهار الثلج فاقع البياض التي أخذت تغفو في أحضانها.

تناهى إلى مسامع طارق همهمة زوجتـه، فتيقن دون أن يبالي كثيراً بأن مناراً، تريد أن تطرد «السرحان» و«تشتت الذهن» الذي تلبد فيـه. كانت منار تستشعر حجم الألم الذي أعتصر زوجها خلال هذه الإجازة بشكل أكـبر مـن الأعوام السابقة ومدى الإحباط الذي لم يكبته طارق عـن واقع العـراق المتردي، المترهل، المتهاوي، صوب كارثة لا يعلم أحد كنهها. كانت تخشى على زوجها الذي خبرته بعد عشرة لأكثر من سبعة عشر عاماً من أن تأخذه سنة من التفكير المستغرق ينحدر فيها إلى حال يماثل «الكوما» في الانسلاخ عــن العالم الخارجي وكل المحيطين به ربما لساعات طوال وحتى لأيام، مهمـا تكـابر على جراح الألم، وتحامل لإخفاء ما يختلجه من شعور، أو حاول إبداء نزر يسير من التفاعل أو رد الفعل مع محدثيه.

back to top