بروتينات مشغولة يدوياً... تحارب السرطان والإنفلونزا!

نشر في 28-01-2018
آخر تحديث 28-01-2018 | 00:03
No Image Caption
يُنتج الجسم البشري عشرات آلاف البروتينات الخلوية، لكل منها مهمة خاصة. تحديداً، تُنتج أجسامنا نحو 20 ألف نوع مختلف من البروتينات، من الكولاجين في بشرتنا إلى الهيموغلوبين في دمنا. يتخذ بعضها شكل صفائح جزيئية، في حين يُنحت بعضها الآخر ليشكّل الألياف، والعلب، والقنوات، وحتى المقصات.
يتمكّن البروتين بفضل شكله الخاص من أداء مهمة محددة، مثل نقل الأكسجين عبر الجسم أو المساهمة في هضم الطعام.
درس العلماء البروتينات طوال قرنين تقريباً. وخلال تلك الفترة، توصلوا إلى الطرائق التي تعدها بها الخلايا من كتل بناء بسيطة. ولطالما حلموا بجمع هذه العناصر لتحويلها إلى بروتينات لا تتوافر في الطبيعة.
لكنهم اصطدموا بلغز كبير محير: كيف تتخذ كتل البناء في البروتين شكلها النهائي؟ عمل ديفيد بايكر (55 سنة)، مدير معهد تصميم البروتين في جامعة واشنطن، على حل هذا اللعز طوال ربع قرن.
ويبدو اليوم أنه نجح هو وزملاؤه في حل هذا اللغز.
استعان الدكتور ديفيد بايكر وزملاؤه في جامعة واشنطن بحشد من الكمبيوترات والهواتف الذكية التي يملكها أكثر من مليون متطوع. وتوصّل هؤلاء العلماء إلى كيفية اختيار كتل البناء الضرورية لإنتاج بروتين يتّخذ الشكل الذي يريدونه.

في سلسلة تقارير نُشرت هذه السنة، كشف د. بايكر وزملاؤه نتائج عملهم. قدّموا آلاف الأنواع من بروتينات اتخذت أشكالاً توقعها العلماء، وكانت غالباً مختلفة إلى حد كبير عن أي بروتين في الطبيعة.

قادت هذه الخبرات إلى تقدّم علمي بالغ الأهمية: بروتينات خلوية يصممها الإنسان لا الطبيعة. يذكر د. بايكر: «صار بإمكاننا اليوم بناء البروتينات من الصفر انطلاقاً من المبادئ الأولى لتقوم بما نريدها أن تنجزه».

سيتمكّن العلماء قريباً من بناء أدوات جزيئية لإنجاز مجموعة واسعة من المهام، كما يتوقّع. سبق أن بنى فريقه البروتينات لأهداف تتراوح بين الفيروسات المحاربة للإنفلونزا وتفكيك الغلوتين في الطعام، ورصد كميات من الأدوية الأفيونية.

أشار أخيراً وليام ديغرادو، عالم أحياء جزيئية في جامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو، إلى أن دراسات د. بايكر وزملائه تمثّل إنجازاً مهماً في البحث العلمي. وأضاف: «في ثمانينيات القرن الماضي، حلمنا بالتوصل إلى نتائج مذهلة مماثلة».

لكل بروتين في الطبيعة شفرة تحملها جينة. واستناداً إلى ذلك الجزء من الحمض النووي، تجمع الخلية البروتين المناسب من كتل بناء تُدعى أحماضاً أمينية.

تختار الخلية المناسبَ من نحو 20 نوعاً مختلفاً لتبني سلسلة من الأحماض الأمينية، بطول عشرات، أو مئات، أو حتى آلاف الوحدات. وعندما تنهي الخلية عملها، تنثني السلسلة على نفسها في جزء على مئة من الثانية.

تنثني البروتينات لأن كل حمض أميني يحمل شحنة كهربائية. نتيجة لذلك، تنجذب أجزاء سلسلة البروتين أحدها إلى الآخر في حين تتنافر أجزاء أخرى. يستسلم بعض الروابط بين الأحماض الأمينية بسهولة لهذه القوى، في حين تقاومها الروابط الأكثر صلابة.

يجعل اجتماع هذه القوى الذرية كافةً كل بروتين أحجية جزيئية مذهلة. عندما كان د. بايكر في جامعة كاليفورنيا ببيركلي قبل تخرجه، ما كان أحد يعرف كيفية دراسة سلسلة من الأحماض الأمينية وتوقّع الشكّل الذي ستتخذه عندما تنثني. وكان العلماء المتخصصون في البروتينات يكتفون بالإشارة إلى هذا اللغز بـ«مشكلة الانثناء».

كبّلت مشكلة الانثناء هذه أيدي العلماء وحالت دون تلاعبهم بهذه العناصر البيولوجية المهمة. فما كان بإمكانهم استخدام أية بروتينات غير تلك المتوافرة في الطبيعة، على غرار الإنسان الباكر الذي كان يبحث عن الحجارة الحادة ليقطع اللحم عن العظم.

نستخدم البروتينات منذ آلاف السنين. على سبيل المثال، أعدّ مصنعو الجبن الأوائل خثار الحليب بإضافة قطعة من معدة العجل إليه. وهكذا كان البروتين تشيموسين، الذي تنتجه المعدة، يحوّل الحليب السائل إلى شكله شبه الصلب.

ما زال العلماء اليوم يبحثون عن طرائق لاستغلال البروتينات. يدرس عدد من الباحثين البروتينات في قواقع «أذن البحر»، مثلاً، على أمل بالتوصّل إلى سترة واقية أقوى. ويتفحص آخرون خيوط العنكبوت بغية صنع حبال مظلات أكثر متانة. كذلك يُدخل بعض الباحثين تغييرات طفيفة إلى البروتينات الطبيعية ليروا ما إذا كانت هذه التعديلات تسمح لهم بإنجاز أمور جديدة.

لكن د. بايكر وكثيراً من علماء البروتينات الآخرين يعتبرون هذا النوع من التعديلات المتواضعة غير كافٍ البتة. فالبروتينات في الطبيعة تمثل جزءاً بسيطاً من «عالم البروتينات»: البروتينات كافة التي يمكن صنعها باعتماد تراكيب مختلفة من الأحماض الأمينية.

يوضح د. بايكر: «عندما يريد الناس بروتيناً جديداً، يبحثون في الطبيعة عن بروتين موجود أساساً. لكن هذه العملية تخلو من أي تصميم أو ابتكار».

اكتشاف بحشد الجهود

يتمتع د. بايكر بوجه طفولي، وسلوك مرح، وشعر تدبّ فيه الفوضى، فضلاً عن ميل إلى ارتداء القمصان القطنية خلال المحاضرات العلمية. لكن مظهره هذا يخفي وراءه اندفاعاً كبيراً.

بعد تخرجه في بيركلي والتحاقه بجامعة واشنطن، وحّد بايكر الجهود لحل مشكلة الانثناء هذه، مستغلاً هو وزملاؤه واقع أن البروتينات الطبيعية متشابهة.

لا تولد البروتينات الجديدة تلقائياً، بل تتطوّر من بروتينات سابقة. لذلك نجح العلماء، عند اكتشافهم شكل بروتين معيناً، في تخمين أشكال البروتينات المرتبطة به بدقة كبيرة.

برامج وخصائص

علاوة على ذلك، اعتمد العلماء على واقع أن بروتينات كثيرة تتألف من أجزاء متشابهة. وتشمل هذه الخصائص المشتركة جزءاً حلزونياً من الأحماض الأمينية يُدعى لولب ألفا. فقد تعلّم الباحثون تمييز سلاسل الأحماض الأمينية التي تنثني لتشكّل هذه اللوالب.

في أواخر تسعينيات القرن الماضي، لجأ الفريق في جامعة واشنطن إلى برنامج إلكتروني بغية إعداد دراسات فردية عن بروتينات معقدة. أراد هذا المختبر إعداد لغة مشتركة لكل هذه الشفرة، كي يتمكن الباحثون من ولوج جماعياً المعلومات عن البروتينات.

في عام 1998، أطلق هؤلاء الباحثون منصة تُدعى «روزيتا» يستطيع العلماء استخدامها لبناء سلاسل افتراضية من الأحماض الأمينية ثم احتساب الشكل الأكثر احتمالاً الذي قد تتخذه عند الانثناء.

تشكّلت حول هذه المنصة مجموعةٌ من العلماء المتخصصين في البروتينات أطلقت على نفسها اسم Rosetta Commons، وعملت خلال السنوات العشرين الماضية، على تحسين البرنامج الإلكتروني يومياً واستخدامه لتعميق فهمها لشكل البروتينات والطريقة التي تتيح لهم بها هذه الأشكال العمل بالبروتينات.

في عام 2005، أطلق الدكتور بايكر برنامجاً يُدعى Rosetta@home جنّد المطوعين للتبرّع بوقت معالجة على أجهزة الكمبيوتر في منازلهم، ومن ثم هواتف أندرويد التي يملكونها. وخلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية، انضمّ 1226542 شخصاً إلى مجموعة Rosetta@home.

وهكذا ازداد «روزيتا» قوةً وتطوراً تدريجياً. فقد نجح العلماء في استخدام هذا الحشد من قوة المعالجة للتوصل إلى تفاصيل أكبر في انثناء البروتينات. واللافت أن توقعاتهم صارت أكثر دقة على نحو مفاجئ.

لم يتوقّف الباحثون عند البروتينات الموجودة في الطبيعة بل طوّروا أيضاً بروتينات لها تسلسل غير طبيعي. وبغية رؤية شكل هذه البروتينات غير الطبيعية في الواقع، أنتج لها العلماء جينات وزرعوها في خلايا خميرة أسهمت في ولادة ما ابتكره المختبر.

يشير د. بايكر: «ثمة تفاصيل دقيقة ما زلنا نجهلها في البروتينات التي تولد طبيعياً، إلا أننا حللنا عموماً مشكلة الانثناء».

البروتينات والأوبئة

عزّز هذا التقدّم ثقة د. بايكر وشجعه على مواجهة تحدٍّ أكبر: بدأوا يصممون البروتينات من الصفر لأهداف محددة. ينطلق الباحثون من مهمة يريدون أن ينجزها البروتين، ومن ثم يكتشفون سلسلة الأحماض الأمينية التي تجعلها تنثني بالشكل الملائم لتنجز المهمة المطلوبة.

في إحدى تجاربهم، تعاون هذا الفريق مع إيان ويلسون، عالم فيروسات في معهد سكريبس للأبحاث، بغية تطوير بروتين يحارب الإنفلونزا.

كان الدكتور ويلسون يبحث عن طرائق لإبطال تأثير هذه العدوى، وحدّد مختبره هدفاً يبدو واعداً جداً هو جيب في سطح الفيروس. فإذا نجح العلماء في تطوير بروتين يتغلغل في هذا الجيب، فقد يتمكنون من منع هذا الفيروس من دخول الخلايا.

استخدم فريق د. بايكر «روزيتا» لتصميم بروتين مماثل، مضيِّقاً البحث لينحصر في بضعة آلاف من سلاسل الأحماض الأمينية التي قد تؤدي الغرض المرجو. ثم حفّزوا انثناء كل منها، بحثاً عن تراكيب قد تدخل في جيب الفيروس.

استخدم الباحثون بعد ذلك خميرة معدلة هندسياً لتحويل البروتينات التي بلغت المرحلة نصف النهائية إلى بروتينات حقيقية، ثم أطلقوها على فيروسات الإنفلونزا، فلاحظوا أن بعضها تمسّك بهذا الفيروس بفاعلية أكبر من غيره. عمل الباحثون تالياً على تحسين ابتكاراتهم إلى أن توصلوا إلى بروتين نهائي حمل الاسم HB1.6928.2.3.

بغية اختبار فاعلية HB1.6928.2.3 في وقف عدوى الإنفلونزا، أجرى الباحثون تجارب على فئران. رشوا البروتين على أنوفها، ثم حقنوها بجرعات كبيرة من الإنفلونزا تكون غالباً قاتلة.

لكنّ البروتين زوّدها بحماية من الموت بلغت 100%. إلا أن علينا أن ننتظر لنعرف ما إذا كان HB1.6928.2.3 فاعلاً في حالة البشر أيضاً.

يؤكد الدكتور ويلسون: «من الجيد أن نملك دواء يشكّل خط الدفاع الأول في حالة الوباء». HB1.6928.2.3 واحد من بروتينات عدة صممها الدكتور بايكر وزملاؤه واختبروها. إلى جانبه ابتكروا أيضاً جزيئاً يعوق سماً يسبب التسمم السجقي، وآخر يستطيع رصد كميات ضئيلة من الفينتانيل الأفيوني. كذلك يساعد بروتين ثالث مَن لا يستطيعون تحمّل الغلوتين بتفكيك جزيئات الأخير في الطعام.

قبل أيام، قدّم فريق د. بايكر أحد أكثر مشاريعه طموحاً: قوقعة بروتين يمكنها حمل جينات.

صمّم الباحثون بروتينات تجتمع معاً مثل قطع الليغو، متحولةً إلى كرة فارغة. وتستطيع خلال هذه العملية ضمّ جينات ونقل تلك الحمولة بأمان طوال ساعات في مجرى دم الفئران.

تجمع أوجه شبه مذهلة بين هذه القواقع والفيروسات، إلا أن القواقع تفتقر إلى الوسائل الجزيئية الضرورية لغزو الخلايا. يوضح بايكر: «ندعوها أحياناً «ليست فيروسات».

يُجري عدد من الباحثين تجارب على فيروسات بهدف استعمالها كوسيلة لإيصال الجينات إلى الجسم. تستطيع هذه الجينات عكس الاضطرابات الوراثية. كذلك أدت في تجارب أخرى إلى نتائج واعدة كوسيلة لإعادة برمجة الخلايا المناعية بغية محاربة السرطان.

ولكن لما كانت الفيروسات نتاج مليارات السنين من التطور، فإنها لا تقدّم غالباً أداء جيداً كوسيلة لنقل الجينات. «أما إذا بنينا نظام النقل من الصفر، فمن المفترض أن يحقق نتائج أفضل»، وفق د. بايكر.

يقول غاري نابل، كبير العلماء في سانوفي، إن بحثاً جديداً قد يقود إلى تدخل يعتمد على جزيئات لا يمكننا تخيّله. يضيف: «هذا مجال جديد لأننا لا نقلّد بروتينات موجودة».

في الوقت الراهن، يقتصر نجاح د. بايكر وزملائه على البروتينات القصيرة السلسلة. ويعود ذلك في جزء منه إلى كلفة إعداد أجزاء من الحمض النووي بغية فك شفرة البروتينات.

لكن هذه التكنولوجيا تحقِّق التقدم بسرعة كبيرة، ما أتاح للفريق أخيراً اختبار بروتينات أكبر وأطول ربما تؤدي مهمات أكثر تعقيداً، من بينها محاربة السرطان.

في علاج السرطان المناعي، يتعرّف جهاز المناعة إلى الخلايا السرطانية بتمييز بروتينات على سطحها. لكن جهاز المناعة يعتمد على أجسام مضادة لا تميِّز سوى بروتين واحد.

يرغب د. بايكر في تصميم بروتينات لا تولّد رد فعل إلا بعد تحديدها دفعةً واحدةً أنواعاً عدة من البروتينات على سطح الخلايا السرطانية. ويعتقد أن هذه الجزيئات ستحقق نجاحاً أكبر في تمييز الخلايا السرطانية من دون المساس بالخلايا السليمة.

يشدِّد: «نصمم جزيئات تستطيع القيام بحسابات منطقية بسيطة». ويأمل في أن يتوصل في النهاية إلى تطوير آلات جزيئية.

تولّد خلايانا الوقود بمحرك مماثل: برويتن عملاق يُدعى مولّد الأدينوسين الثلاثي الفوسفات ويعمل مثل دولاب ماء جزيئي. فيما تنصب البروتونات المشحونة إيجابياً عبر حلقة من الأحماض الأمينية، تدور مئة مرة في الثانية، فيستغل هذا المولّد الطاقة لبناء جزيء طاقة يُدعى أدينوسين ثلاثي الفوسفات.

ومن المفترض أن ينجح العملاء في بناء آلات جزيئية معقدة مماثلة، فيما يعززون معارفهم عن كيفية تشكّل البروتينات الكبيرة، وفق الدكتور بايكر.

يختم: »ثمة إنجازات كثيرة طوّرتها الطبيعة بعملها بشكل عشوائي. وفيما نعمّق فهمنا للأسس الرئيسة، من المفترض أن نحقق نتائج أفضل بكثير مما توصلت إليه».

العلماء يعتقدون أن الجزيئات ستميز الخلايا السرطانية من دون المساس بالخلايا السليمة
back to top