حبر و ورق

نشر في 30-12-2017
آخر تحديث 30-12-2017 | 00:02
No Image Caption
الخائفون

كنت جالسة في عيادة كميل قبل خمسة عشر عاماً بالضّبط. هل تقرأ يا كميل ما أكتبه الآن؟ هل رنّ الرّقم في أذنيك؟ خمسة عشر عاماً يا كميل. هذا ما يقال عنه «كل تلك السّنوات». وأنت تحدّثني في الحلم عن أربع سنوات ونصف السنة على أنّها «كلّ تلك السّنوات»!

كنت جالسة في تلك العيادة الصغيرة جداً، تتّسع وتتمدّد وتستطيل حتى تستوعب عشرات الزائرين. قليلون منهم أتوا في مواعيد مسبقة محدّدة منذ أسبوع أو أكثر. ومعظمهم أتى في حالات طارئة من خارج مدينة دمشق. يجلسون على الكراسي القليلة أو يفترشون الدرج الضيّق في الخارج. كنت أدخّن وأتأمّل الجالسين بالقرب منّي، والسكرتيرة المعجونة بعذوبة نادرة تقرأ المحاضرات المطبوعة، وتدرس بجدّ تحضيراً لامتحانات منتصف السّنة. تسترقّ النّظر إليّ بين الحين والآخر، وتبتسم. هي ضجرة غالباً على الرّغم من عذوبتها. باستطاعة المرء أن يكون عذباً وضجراً في اللّحظة ذاتها. سكرتيرة شابَّة تدرس وتعمل في الوقت نفسه. تعيل أسرتها المنكوبة ككثير من الأسر. أمُّها مصابة بكل أنواع الأمراض، منذ أن مات زوجها قبل أعوام. كانت امرأة نشيطة، جميلة، تلعب الحياة بجسدها الخمسينيّ الممشوق. ثمَّ مات حبيبها، فأصيبت بضغط الدمّ والسّكريّ والكلاوي والغدَّة، وباتت كتلة رخوة تلازم الفراش. أختها المطلّقة تعيش معهم بصحبة ابنتها الوحيدة البالغة من العمر سنتين. أخوها الوحيد فَقَد عقله قبل سنوات طويلة. كان في الواحدة والعشرين عندما أحبَّ زميلته تلك، ابنة ضابط برتبة صغيرة، تسكن في منطقة «المزّة 86». شاهدها مصادفة في الجامعة ابن رئيس فرع مخابرات. لم تقل لي ليلى أي فرع مخابرات – ليست المعلومة مهمَّة. أحبَّها وأراد اصطحابها في نزهة إلى «استراحة» والده. «الاستراحة» هي المصطلح المتداول بين أبناء المسؤولين، ويدلّ على مزرعة في أطراف مدينة دمشق، تُمنح لكلّ ضابط برتبة رفيعة ليقضي مع عائلته أوقات الفراغ والإجازات. رفضت الصبيّة عرضه، وكانت على علاقة بأخي ليلى. وفي أحد الصباحات، خُطف أخو ليلى وهو خارج من بيته، الواقع في مساكن برزة. اختفى أسبوعاً كاملاً. عاد بعدها جسداً فارغاً. «علّقوه لأيّام من قدميه ورأسه يتدلّى إلى الأسفل، حتّى صفّوا له آخر ذرَّة من عقله». أذكر تلك العبارة جيّداً. قالتها لي ليلى في إحدى الزيارات، ولم يكن في العيادة غيري وغيرها. قالت إنّه عاد بلا عقله. ومنذ ذلك اليوم، يجلس أخوها في غرفته، مقفلاً الباب على نفسه، فاتحًا الشبّاك المفضي إلى شارع مكتظّ من شوارع مساكن برزة، ينادي الناس ويقول لهم: «هل رأيتم الرّئيس؟ إن شاهدتموه مصادفة نادوا له. قولوا له إنّني لن أخرج من غرفتي حتّى يأتي هو شخصيًّا لزيارتي». ولم يكن يكترث أحد لكلامه. مجنون. فقد عقله.

ليلى تقضي يومها في تلك العيادة الصغيرة بين أشخاص يشبهون أخاها بشكل أو بآخر، يمتلكون حكايات لا تقلّ غرابة عن حكايته. تدرس وتنظّم المواعيد، تشرب الكثير من النسكافيه ممزوجة بالحليب، وتدخّن بشراهة، وتعود إلى ذلك البيت لتعيل أمّها، الكتلة الرّخوة الملازمة للفراش، وأختها الوحيدة المطلّقة وابنة أختها، وأخيها سجين الغرفة والجنون. وأنا كنت أراقب ليلى، وأفكّر بتلك العذوبة المنهمرة من عينيها بالغصب، رغم كلّ شيء. إذ يصعب على المرء أن يكون الأمّ والأب والطبيب والزّوج، وأن تبقى ملامحه حياديّة تشبهه وحده. لا بدّ من أن يصبح المرء بملامح أخرى يستعيرها من المهمّات الصعبة الملقاة على كتفيه. فيصبح متجهّمًا في لحظة، وحاسمًا في لحظة أخرى. عيناه تكسوهما القسوة في رمشة عين، ويداعبهما الحنان في رمشة أخرى.

وأنا، كنت جالسة هناك أمرّر نظري على الجالسين وحيداً تلو الآخر. دخل شابّ في أوائل الثلاثينيات. طويل. عريض الكتفين. ملامح وجهه واضحة كأنّها مرسومة رسماً، أو منحوتة نحتاً. شعره الكثيف أسود فاحم. صدره بارز إلى الأمام؛ ورحت أغبطه لأنّ قفصه الصدريّ يتّسع الكثير من الهواء. وتلك الغبطة لم أشعر بها في ذلك اللّقاء الأوّل والعابر، بل بعد أشهر طويلة من معرفتي به. أنا التي كنت أخاف من الاختناق، أصاب بالهلع من فكرة أن الهواء سينفد ولن يتسنّى لي أخذ المزيد منه، وسأموت اختناقاً، بينما أراقب نسيم وهو يأخذ نفساً عميقاً ليملأ رئتيه الأكثر اتساعاً منّا نحن البشر العاديّين، أصحاب الأقفاص الصدريّة الضامرة أو بأفضل الأحوال المستوية مع بطوننا. لم ألحظ تلك المرّة عضلاته المفتولة والقاسية، والبارزة بالتواءات تشي بأنّ صاحبها مهووس بكلّ عضلة على حدة. يعمل بشقاء لتنمو كلّ واحدة بمعزل عن الأخرى. كان الشتاء والملابس السّميكة تخفي تلك التفاصيل. لكنّه في لحظة ما، شمّر عن ساعديه. ولمحت رسغيه - وأنا مهووسة بتلك المنطقة بين اليد والكوع. تلك المنطقة الممتدّة على مساحة صغيرة، تحملني إلى فضاء آخر، لا تنقصه الرّحابة ولا يخفت فيه الأوكسجين. كما أنني أعشق العظام. أحبّ نتوءات العظام في الجسم. لا تقنعني الأجساد التي تختفي عظامها وراء لحمها الغضّ. أروح أفتّش عن تلك النتوءات البارزة في اليدين والرّسغ والحنجرة وبين الرقبة والصدر «عظام الترقوة»، الترقوة ؟ كيف يمكن لكلمة على هذا القدر من الثقل أن تشير إلى منطقة فضفاضة ودافئة!

عندما جلس وشمّر عن ساعديه، ورأيت عظمتيْ الرسغين البارزتين خلف بشرة ناعمة يكسوها شعر أسود خفيف، تدلّيت بعيني إلى قدميه..

بنطال الجينز مرفوع قليلاً لأنه يضع قدماً فوق الأخرى. بين طرف حذائه الرّياضيّ وأسفل بنطلون الجينز، تنبت تلك العظمة البارزة. ولم أعرف سبباً واضحاً ومنطقيًّا لذلك الشغف بالعظام. لم أقل لكميل إنّني أحبّ العظام أكثر من أيّ شيء آخر.

جلس نسيم بكلّ ما يمتلك من عظام على الكرسيّ الحديد المغطّى بجلد بنّيّ رخيص. نظرت إليه. لم ينتبه إلى وجودي. في الواقع لم ينتبه إلى وجود أيّ شخص آخر. حتّى إنه أشعل سيجارة وراح ينفض رمادها أرضاً. نظرت إليه ليلى والدهشة تعلو ملامحها. قالت له بنبرة هادئة: «ئمة منفضة سجائر على الطاولة أمامك». وأنها بجملتها تلك قطعت شروداً طويلاً كان غارقاً فيه نسيم، كذلك البحر الذي يخاف منه. فتح عينيه على اتّساعهما، ولم يعتذر. اكتفى بالنّظر إلى يساره حيث الطاولة ومنفضة مكسورة الحواف تعلوها. نفض سيجارته فيها، ولم يكترث للرّماد الذي أسقطه على الأرض عن قصد. حتّى إنّه لم ينحنِ لينظّف الأرض تحته، كأنّه في حديقة ما أو في الشّارع، ونسمة هواء ستقوم بالمهمّة عاجلاّ أم آجلاً. كأنّ ليلى ليست موجودة. لم يفترض نسيم أنَّ ليلى هي التي ستنحني بعد لحظات على الأرض لتلملم الرّماد. ثمّ دخلت إلى موعدي قبله.

وكنت وأنا أتحدّث إلى كميل، أشعر بنسيم يسترق السّمع إلى حياتي المنهمرة على أوراق كميل الكرتون الصغيرة الرّاقدة على مكتبه، يسجّل عليها رموزاً غير مفهومة. كنت، ذلك اليوم، مشحونة بالحزن، وقد خطّطت مسبقاً أنّني سأحدّثه عن حلم غريب رأيته ليلة البارحة. إلاّ أنّني غيّرت رأيي. هل لأنّ ذلك الرجل غريب الأطوار، صاحب العظام البارزة، يجلس هناك خلف الباب الخشب الرّقيق؟ لم أحكِ لكميل أنّني كنت جالسة على سطح عمارة قديمة من عمارات دمشق الواطئة. القمر مكتمل. أجلس على الحافّة غير عابئة باحتمال السّقوط. أتأمّل القمر سعيدة باكتماله. وفي الوقت ذاته مدهوشة من نفسي، لأنّني عادة لا أحبّه مكتملاً. لا أحبّ الأشياء المكتملة المدوّرة، الممتلئة، المنتهية. أحبّها ناقصة. النقصان يشعرني بالاكتمال والامتلاء. إلاّ أنّني ذلك المساء، كنت سعيدة بالقمر مكتملاً، أحمرَ، مستديراً كرغيف خبز. وكأن اكتماله طالع من روحي. وكأنّه مرآة تعكس اكتمالي وامتلائي بذاتي، أنا المشغولة غالباً بتأنيب نفسي وجلدها وعقابها على خطايا قد أكون ارتكبتها وقد لا أكون. كل ما يحصل في العالم من أشياء سيّئة، ألوم نفسي عليها، وكأنّني اتحمّل جزءاً من المسؤولية. ربما لأنّني خلقت . مجرّد وجودي في هذا العالم الغريب، يجعلني مسؤولة عن جزء يسير من مصائبه. ثمّ، سقط قلبي. كلا لم يسقط قلبي فجأة. سقط القمر على الأرض، فشعرت بقلبي يهوي معه. شعرت بفقدان موجع. في اللّحظة ذاتها، مرّت من أمامي في السّماء المعتمة بعد سقوط القمر سيّارة «قرقوعة» يقودها رجل، زوجته تجلس إلى جانبه. لا أعرف إن كانت زوجته، إلا أنّ الضجر المرتخي على ملامحهـما جعلني أشعر أنّها زوجته. وهل كل الأزواج ضجرون؟! الرّجل الذي يقود سيّارته في السّماء ستينيّ وزوجته كذلك. لم أحكِ لكميل عن ذلك الحلم. تلعثمت، وفقدت الرَّغبة بالكلام. وكميل يعصرني، يستجوبني، يجرجر الكلام من فمي. وأنا كنت أفكّر بذلك الشابّ الجالس في الخارج. نظرت إلى عينيه وأنا خارجة من غرفة كميل. كان شارداً. نظر إليّ، إلاّ أنّها نظرة شاردة، وكأنّه ينظر إلى الباب يُفتح ويُغلق من دون أن يلمح أحداً خارجاً من هناك.

بعد أسابيع طويلة من اللقاءات العابرة، كان موعده قبل موعدي بالضّبط. خرج ودخلت. ثمّ خرجت وودّعت ليلى. نزلت الدرج الضيّق والطويل. تفاجأت به جالساً على آخر درجة أسفل العمارة المكوّنة من ثلاث طبقات. مررت بمحاذاته وسلّمت عليه. نظر إليّ تلك النظرة الشاردة ذاتها، وقال لي بلهجة غير مبالية: «انتظرتك خمسين دقيقة. هل تقبلين دعوتي على فنجان قهوة؟»، هززت برأسي موافقة. خرجنا من العمارة. مشينا سويّة بلا وجهة محدّدة. لم نتحدّث طوال الطريق المفضي إلى شارع الحمرا، ثمّ إلى الشعلان.. ثمّ عند فندق الشام، توقّف لثانية واحدة، ودخل دون أن يسألني إن كنت أفضّل هذا المكان عن غيره. دخلت وراءه. اختار أقرب طاولة إلى الشبّاك. جلست قبالته. نادى للشابّ، لم يسألني ماذا أريد أن أحتسي. نظر إليّ الشابّ مستوضحاً. «فنجان قهوة وسط»، قلت له. ونسيم لم ينظر إليّ حتّى تلك اللحظة. كان مشغولاً بالتحديق بالمارّة في الخارج. وأنا شعرت بالارتباك. رحت أسأل نفسي: «ماذا أفعل هنا، مع هذا الشابّ الغريب صاحب العظام البارزة؟» حتّى أنّني لم أكن أعرف اسمه. وجدت الأمر غريباً أن أسأله عن اسمه. إذ كيف لي أن أخرج مع رجل لا أعرف اسمه بعد! وهو لم يسألني كذلك. ربّما لأنّه لم يكن معنياً على الإطلاق بمعرفة اسمي. أشعل سيجارة. يدخّن بطريقة غريبة. يأخذ مجّة عميقة. ينفث بعضها كنتف غيم، ثمّ يبتلعها من جديد. رحت أتأمّل تلك النتف التي تخرج ثمّ يبتلعها من جديد كلّها، من دون أن يفلت ولا أيّ خيط رفيع منها. بدا لي واثقاً، صلباً، متين البنيان، كأنّه مكتف وممتلئ بذاته، كما كنت في الحلم الذي لم أروه لكميل ذلك اليوم. ما حاجته إلى كميل إذاً؟ رحت أتساءل. هل ليعزز تلك الثقة وليوطّن تلك الصلابة؟ أم أن كميلا صنع منه ما هو عليه الآن؟

الهجرة إلى أقصى الشرق

عندما أسافر أحلم دائماً بلقاء امرأة مثقفة وجميلة أمتع بها نظري ويهفو إليها قلبي ويحاورها عقلي، ولكنني إلى الآن لم ألتق هذه المرأة النادرة، ولذلك ما زلت على سفر دائم لألتقيها. وكما يقول المتنبي: على قلــق كـــأن الريح تحتي أوجهها جنوباً أو شمالاً.

أخذ مقعده في الطائرة المتجهة من بانكوك إلى هونغ كونغ وهو يرجو أن يكون الشخص الذي سيجلس إلى جانبه امرأة جميلة ولطيفة أو رجلاً خفيف الظلّ.

وما هي إلاّ دقائق حتى خاطبه شاب مستأذناً بالمرور إلى المقعد في جوار النافذة؛ إنه هندي الملامح نحيل الجسد طويل القامة باسم الوجه لطيف، ربما هو في الأربعين من العمر، ثيابه مميزة وجميلة ممهورة بعلامة تجارية مشهورة وبوادر الغنى والرفاهية بادية عليه.

بعدما جلس بادره بالسلام والمصافحة وعرّفه بنفسه وأعطاه بطاقته الشخصية وقال:

- أنا دوليـب (Dulip) أحد أصحاب شركة هيموتكــس التجارية. نحن موجودون في أغلب العواصم الآسيوية المهمة، وأظن أنك رجل أعمال، فأجابه قائلاً:

- رجل أعمال صفة كبيرة، أنا رامي ناهير (Rami Nahir) تاجر فرنسي، ولكنني لبناني المولد والإقامة، والدتي لبنانية ومقيم الآن في الكاميرون إحدى الدول الإفريقية المتوسطة المساحة وعدد السكان، آتي مرّتين في السنة لأشتري البضائع الجيدة والرخيصة وأيضًا الابتكارات الجديدة من السلع معتدلة الثمن.

إنّ شعب إفريقيا فقير ولكنه يسعى جاهداً للعلم والتقدم الحضاري، ولهذا يبهره كل اكتشاف جديد من السلع فيشتريه، ونحن نفتش له عن السلعة الجديدة الرخيصة الثمن كي لا ترهق ميزانيته الضئيلة ويمتنع عن الشراء.

فسأله دوليب:

- في أي مجال تعمل؟ فأجاب رامي:

- في التجارة العامة، نشتري كل شيء عدا المواد الغذائية، فردّ دوليب.

-نحن أيضاً نعمل بكل المواد حتى الغذائية منها من أرزّ وتونا وسردين وغيره، ويسعدني أن تزور صالة العرض في مبنى الشركة ستجد أصنافاً كثيرة وبائعات محترفات بالإجابة الفورية عن السعر والكمية والحجم واللون، يعني جميع المواصفات للسلعة، فرد رامي:

-ولكن أنا لا أشتري إلا (stock lot) أو السلعة الجديدة الرخيصة الثمن كما قلت لك، وأنا أتعامل مع شركة دولافوم (Dolafom) باعتماد مصرفي لمدة ثلاثة أشهر من تاريخ شحن البضاعة، فأجاب دوليب:

-أصحاب شركة دولافوم أصدقاؤنا، وهي شركة كبيرة كشركتنا، ونحن أيضاً نقدم تسهيلات أفضل بالدفع وخصوصاً لتجار إفريقيا وغالبيتهم لبنانيون وهم صادقون بتعاملهم.

اتفق الاثنان على موعد بعد يومين ليأتي دوليب ليصحب رامي للتعرف إلى الشركة وأصحابها.

استمرّ الحديث بينهما عن بوادر أزمة اقتصادية بدأت في الولايات المتحدة وامتدّت إلى أوروبا، وها هي تصل إلى دول الشرق الأقصى.

لقد أصبحت الدول الصناعية في العالم تتأثر بعضها ببعض.

قال دوليب: السنة الماضية كان التصدير جيداً، أما هذه السنة فقد انخفض إلى النصف دفعة واحدة، القارة الوحيدة التي حافظت على حجم الاستيراد عندنا هي القارة الإفريقية، ليس عندنا فقط ولكن عند جميع الشركات التجارية، ولهذا قررنا، بالتعاون مع المصارف التي نتعامل معها، أن نعطي مزيداً من التسهيلات لتجار إفريقيا، فأجابه رامي:

- هذه أنباء سارة عن إفريقيا، وحتماً عندما نجد تسهيلات بالدفع ستتضاعف مشترياتنا.

واستمرّ الحديث بين الاثنين في أمور شتى حتى وصل إلى الحياة الاجتماعية في هونغ كونغ من سهرات في أندية ومطاعم وملاهٍ بصحبة نساء جميلات ولغة الشباب، وكيف يقضون سهرات ممتعة بعد عمل يوم متعب ومرهق في ظل الأزمات الراهنة.

سأل دوليبٍ صديقه الجديد: هل تعرفت إلى هونغ كونغ بمعالمها الدينية والحديثة واطّلعت على تاريخها وحاضرها؟ فأجابه قائلاً:

- لا، إنها الرحلة السابعة لي إلى هنا، أقضي أسبوعين في الشراء ولا وقت لديّ خلال النهار. أما في الليل فأجول في الشوارع أتفرج على البضائع المعروضة في الواجهات وفي المجمعات التجارية الكبرى، وقد أدخل أحياناً إلى أحد المراقص فألتقي فتاة تعجبني أصطحبها إلى فندقي لقضاء ساعة معها؛ أضاف:

- أنا أفكر دائماً في عملي، إذ عليّ أن أنجح في كل خطوة أخطوها، ولا مجال عندي للخطأ لأنه سيكلفني غالياً إن حدث، ولذلك أنا حذر وعليّ أن أعثر على السلعة الجيدة والرخيصة لأن البيع الجيد والسريع يكمن في التسوّق الناجح، وهذا ما يشغل عقلي وتفكيري عندما أكون هنا ولا شيء آخر. كما أنني ملتزم مع المصرف الذي أقرضني الاعتمادات بمشترياتي، وعلي أن أسددها بمواعيدها لأكون صادقاً، فردّ دوليب:

-أنت على حق في قولك وتصرفك، ولكن هذا لا يمنع أن تمتّع نفسك بقضاء سهرة في مطعم أو ملهى مع الرفاق، تتكلمون بأشياء أخرى غير العمل وتتعرف إلى فتيات من مستوى رفيع لا مومسات، فأجابه رامى بشيء من الكبرياء:

- طبعاً هذا ما أصبو إليه ويسعدني، وربما لم أخرج إلى هذه الأماكن أو لاكتشاف معالم هونغ كونغ الأثرية أو الحديثة إلا لافتقادي صديقا أو صديقة تصطحبني، فقال دوليب:

-لا تهتم بالأمر، ستجد في شركتنا كل ما يرضيك من بضائع وتسهيلات في الدفع ورفقة لسياحة ممتعة.

في هذه الأثناء بدأ الفجر بالوضوح وازدادت في الأفق معالم الضـوء، وفضاء هذه البلاد من الكون ينتظر بزوغ الشمس والطائرة تزيد سرعتها والرحلة 5109 قد أوشكت على نهايتها.

تنهّد رامي وهو يتطلّع من النافذة قائلاً:

- ما أجمل الفجر وهو يطلع يملأ القلب بالفرح والحنين والأمل!

فرد دوليب بالقول:

- أنت يا صديقي رومانسي أيضاًـ وأكمل وهو ينظر من النافذة: ها قد ظهر خليج هونغ كونغ والمرفأ الكبير. إن هذا الميناء أحد أكبر ثلاثة موانئ طبيعية في العالم بعد سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة وريو دي جنيرو في البرازيل، وإن هذا الخليج الذي يقع بين جزيرة هونغ كونغ وكاولون مساحته أكثر من ستين كيلومتراً مربعاً وله ثلاثة مجارٍ مائية تدخل منها السفن على امتداد ما يقرب من ثمانين مرسى مخصّصة لهذه السفن، وهو بالنسبة إلى خدمات النقل البحري بين الشرق والغرب، وبخاصة إلى نقل الحاويات، يُعتبر الرابع في العالم بعد نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية وروتردام في هولندا وكوبي في اليابان.

واستطرد قائلاً: عندما تنظر إلى هذه المدينة من الطائرة، ترى غابة من ناطحات السحاب والأبراج المتراصّة بعضها إلى جانب بعض، وكذلك ترى من الناحية الأخرى من البحر آلاف المراكب الصغيرة حيث يعيش فيها أهل القاع من سكان هونغ كونغ التي تبلغ مساحتها 1000 كلم مربع، وهي لا تكفي الخمسة ملايين نسمة من ساكنيها، لذلك كان عليهم أن يعيشوا عمودياً.

back to top