حبر و ورق

نشر في 23-12-2017
آخر تحديث 23-12-2017 | 00:00
No Image Caption
امتداح الفاشنيستا

«إن الشهرة تجرّ وراءها كثيراً من المشكلات والإزعاج والشائعات الكاذبة»، قالت ذلك بحكمة، وهي تقود سيارتها عبر شوارع مدينة الملائكة العريضة، عائدة إلى شقتها بعد انقضاء المحاضرات. كل شيء يغري بالحياة والتمرد؛ فالسماء زرقاء وواسعة، وتتخللها قطع متفرّقة من السحاب الأبيض. والنخيل الذي يصطف على جوانب الطريق، شديد الارتفاع. وسعفه أخضر باهت، ويشوبه اصفرار من أطرافه، على وجه يلائم مياه المحيط.

وتقطع الحبال التي تتدلّى منها الإشارات الضوئية، الشوارع بالعرض. وكثير من لافتات الإعلانات الملوّنة عُلِّقت على عواميد الإنارة. ولكن ما أشدّ ازدحام السيارات! كانت تحاول أن تتجنّب سلوك الطرقات السريعة والتقاطعات الرئيسية في ساعات الذروة. ولكن هذا أمر لا مفر منه في يومي الاثنين والأربعاء، فأوقات انصرافها من المحاضرات توافق هذه الساعات. وعلى كل حال، كانت تستغل دقائق الانتظار في الاستغراق في الأفكار والمخططات.

كانت مسرورة، ولا ريب، بالارتفاع الكبير المباغت في أعداد المتابعين. فقد قفز العدّاد بضعة آلاف من المتفرجين الفضوليين، حينما تفقّدته أول ما استيقظت في الصباح. ولا بدّ أن أحداثاً وقعت في ساعات نومها، فالليل عندها يوافق النهار في الطرف الآخر من العالم: الشرق. وفارق التوقيت عشر ساعات كاملة. وأحسّت بالسعادة الفيّاضة، ورمت نفسها في لذة إحساسها بوجودها. وجعلت تحلم بكل الأشياء الجميلة التي سوف تجري لها. من يمكنه أن يصف سعادتها البالغة؟

حين وصلت إلى شقتها، دخلت ووضعت حقيبتها ومفتاح السيارة على المنضدة في غرفة الجلوس. اتجهت إلى غرفة نومها، ووقفت أمام المرآة الكبيرة التي إلى جنب النافذة. وكان ضوء الشمس يتسلّل من النافذة. ومرآتها هذه بيضاوية الشكل، ومتحرّكة بحيث يمكن قلبها إلى الجهة الأخرى. وقد عُلّقت مصابيح على حوافها، وذلك من أجل أن تتفحّص أدنى تفاصيل وجهها أثناء وضع المكياج أو للتأمل. فهي تهوى النظر، بالطبع، إلى نفسها مطولاً في المرآة كسائر النساء، ولا تضيّع فرصة لتتفقد مظهرها.

كانت كثيراً ما تذكر عن المرآة أنه حين رجوعها إلى بلدها، فسوف تتخلّص من جميع أثاثها، لكن لا يمكن أن تتخلّى عن مرآتها الرائعة هذه. لكن – للأسف – لم يكن للمرآة منضدة تضع عليها أدوات المكياج والمستحضرات. وقد تغلّبت على هذا المشكلة بأن جعلت المرآة قريباً من التسريحة. بذلك يكون كل شيء في متناول يدها.

مختلف الأشياء كان منثوراً على المنضدة: أقلام أحمر الشفاه. علب الرموش. علب أحمر الخدود. لوحات ظلال العيون. محدّدات العيون والماسكرا. عاقصة الرموش. وكانت قبل مدّة قد اشترت أدراجاً بلاستيكية، لترتّب فيها جميع أدواتها. فجعلت درجاً خاصاً بأقلام أحمر الشفاه، بالإضافة إلى ملمّعات الشفاه ومحدّداتها، مُنَضَّدة بعضها فوق بعض، ودرجاً لعلب كريم الأساس وكريم البرايمر والكونسيلر، بالإضافة إلى مرطّبات الوجه والشفاه، ودرجاً لعلب أحمر الخدود والبرونزر. وأفردت درجاً لأسفنجات المكياج الخاصة بالدمج والمزج، ووضعت معها عاقصة الرموش، ومجموعة الفراشي بمختلف أشكالها.

وعلى الرغم من ذلك فإنها بعد فترة وجدت كل شيء مبعثراً. فقد كانت تتكاسل أن تعيد الأشياء إلى موضعها الصحيح بعد استعمالها. وخاصة حينما تنهمك في جلسة مكياج عبر الرسائل المصوّرة، أو أثناء تجارب مساحيق التجميل على نفسها. وهذا هو عملها المفضل لاستهلاك الوقت، وكذلك أيضاً فإنه يصقل مهاراتها.

أخذت تتأمّل وجهها في المرآة. كان وجهها خالياً من أي انطباع. قالت في نفسها: هل أبدو أحياناً هكذا حين أقابل الناس وأتحدث معهم؟ إن وجهها متناسب إلى حد بعيد. وباختصار، هي جميلة، بل جميلة جداً. تنتمي إلى ذلك النوع من النساء اللواتي يكتشف فيهن المرء عناصر جمال جديدة في كل مرّة يكرّر النظر إليهن. ويبدو أن هذه الميزة مقصورة على من لم يخضعن لعمليات تجميل!

كانت تبحث عن تسريحة شعر تبدّل مظهرها. رفعت شعرها الطويل الحريري إلى جنب، فبرز عنقها البضّ الرقيق. أعطى ذلك لمظهرها براءة وحيوية. وقالت في نفسها: «ماذا لو صبغت شعري بلون أفتح مما هو عليه الآن؟ كيف سأبدو؟». فلم يسبق لها في الواقع أن صبغته بلون فاتح جداً، بل كانت تصبغه بدرجات البني الداكنة.

فقد صبغته مرة بلون الشكولاتة، ثم يتدرج إلى أن يضرب إلى البنّي الفاتح، في مثل لون العسل أو الكارميل. بحيث إذا كانت في مكان فيه إضاءة جيدة، فتبدو وكأنما الشمس والعسل يجريان في شعرها. وكان ذلك شيئاً يدعو الناظر إلى البهجة. ومرّة صبغته جميعاً باللون البني الداكن، شبيهاً بلون قهوة الأسبريسو الثقيلة. كان لامعاً وأخّاذاً. وكانت تحن إلى مظهرها في تلك الفترة. وأضافت مرة ظلالاً تميل إلى الشقرة. كان رائعاً، وخاصة حين كانت تجعله متموجاً، فإنها تبدو فاتنة إلى أبعد حد.

لكنها كانت تمتنع عن رغبة صبغه باللون الفاتح، مثل اللون البنّي الفاتح الذي يضرب إلى لون الجوز، أو حتى اللون الأشقر الرمادي الداكن، ولا بد أنه حينئذ سوف يبرز جمال عينيها ولونيهما. كانت كما لو أنها تحاول أن تدّخر المظهر الجديد الذي سوف تبدو عليه لمناسبة خاصة أو مرحلة جديدة.

والحق أن أمامها العشرات من خيارات الألوان والظلال. وهي تعرف أن العثور على الألوان الملائمة، سواء كانت صبغات شعر أو مكياجاً، تماماً مثل العثور على إبرة في كومة من القش!

لاحظت في أعلى جبينها قليلاً من البثور التي تكاد تكون غير مرئية. وحدث ما كان متوقعاً، فقد سلّمت منذ أيام أنها كانت على وشك الظهور. إذ أن وزنها اكتسب بضعة جرامات ضئيلة في الآونة الأخيرة.

على كل حال، لم تكن صورتها عن نفسها كما ينظر إليها الناس. وليس هذا غريباً. فحتى الجميلات مع أنه كل أحد يجدهن فاتنات وساحرات، إلاّ أنهن قد ينظرن إلى أنفسهن بطريقة مختلفة. فقد يكون لا يعجبهن شيء من وجوههن. وقد كانت قبل سنوات يضايقها شكل أنفها، فهو غير حاد في نهايته، وأقرب إلى أن يكون مدوّر الشكل. ومع أنه لم يكن بذلك السوء الذي كانت تتصوّره، إلاّ أنه كان يصيبها انفعال شديد إذا تطرّق أحدهم إلى الحديث عن أنفها. ومع الوقت تعلّمت أن تتعايش مع ذلك، بل تفتخر به. ويمكن القول إنها تغلّبت على عدم الأمان النفسي هذا تماماً. وكانت فكرة إجراء عملية بعيدة من حساباتها، ولم ترَ لها ضرورة.

بعدما تناولت شطيرة بوريتو شهية – بدون أرز – من مطعم مكسيكي صغير قريب من شقتها. غسلت يديها، واتجهت إلى الشرفة، وألصقت وجهها على الزجاج، لتشاهد المنظر أسفل. كانت الشوارع خالية، إلاّ من سيارات منفردة تمرّ من وقت إلى آخر. ابتعدت من الشرفة، واتجهت إلى السرير وتربّعت فوقه.

تناولت هاتفها، وأخذت تسير بشرود على التعليقات. مع الوقت تعلّمت ألاّ ترد على أحد. صحيح أنها تتفقّد التعليقات، لكنها قليلاً ما تردّ. اللّهم إلاّ إذا كان شيئاً مميزاً، أو سؤالاً جادًّا شرط أن يكون في وقته، أو كان تعليقاً من أحد تعرفه. وعرفت كيف تصنّف التعليقات من المتطفّلين ممن يريد أن يكسب أي شيء منها، مثل الملاحظات الساذجة، أو من يهاجمونها وغرضهم من ذلك جذب انتباه الناس إليهم.

لم تكن عدائية. وكانت حريصة على تجنّب المشكلات، ومتقبّلة للأمور التي تجرها الشهرة بطيب خاطر. وتردّ على الانتقادات بصبر، ولا تدع الأشياء تزعجها، وتعدّ هذه الأمور تافهة وغير جديرة بالاهتمام. وكانت تعلم أنها لن تستفيد من الاشتباكات والمماحكات سوى تعكير مزاجها. وإن أزعجها أحد فإنما هو باختيارها.

وكانت تعرف أن التجاهل يفقد المرسلين صوابهم ويثير ثائرتهم، وخاصة خسة المتفرجين والأوباش والمنبوذين. وهم لا يريدون منها سوى استجابة، أي شيء كان. لكنها كانت تقابل ذلك بمزيد من التجاهل، ولا تعطيهم جواباً، حتى يصيبهم الملل وينصرفوا خائبين. كانت تلعب ورقة التجاهل، أو أحياناً الاحتقار، ببراعة!

كانت تشعر بالضجر، ولم يكن لديها شيء تفعله. وفكّرت في الحقيقة التسلية الوحيدة الممكنة: فقرة أسئلة. تدفع بها هذا الضجر، فلم يكن لديها شيء أفضل لتقوم به. علما أنها لم تمسح المكياج بعد. وقد كانت عادتها أن تزيله أول ما ترجع إلى شقتها، وليس في نيتها الخروج مرة ثانية. إن تلك النظافة تشعرها بالراحة والرضا كما تذكر. ولكن هذه الأيام اختلف الأمر، فهي تبقيه حتى تصوّر الرسائل. اللهم إلاّ إذا كان مكياجاً ثقيلاً، أو كانت على سريرها وقد قرب وقت النوم، فسيبدو الأمر سخيفاً أن تنشر رسالة مصورة وهي في تلك الحال.

وها هي الآن مبتهجة أمام الكاميرا، وتجتهد في شرح الأجوبة، وتندفع في الحديث بحماسة وانفعال، وترتسم على وجهها كل التعابير. كانت المواضيع من قبيل أمور المكياج والخلطات والأزياء والطعام الصحي. وكذلك بعض المواقف التي جرت لها في الأيام الماضية.

وكانت تبدي آراءها في الأسئلة التي تردها. بين وقت إلى آخر، تؤكد «هذه هي آرائي الشخصية التي أقولها». وكانت تسدي النصائح إلى متابعيها، وتشدّد أن هذه النتائج لا تأتي إلاّ بالجهد والمثابرة. وأحياناً تتكلم بإسهاب، وخاصة إذا كان ينتابها شعور يعطيها مقدرة على الشرح والتفصيل، فلا تعود قادرة على ضبط نفسها، وتنبثق في رأسها الأفكار، وتقوم في متابعيها خطيباً! وكثيراً ما كانت تشعر أنها تقول أكثر مما تعرف.

وهي تعلم أنه عليها أن تتصرف بأقصى قدر من الحذر، وتختار كلماتها بعناية، لئلاّ تورّط نفسها. وإذا اضطرت أن تتكلّم في القضايا الجدلية فإنها تقول كل شيء ولا تقول أيّ شيء. ويا لذكائها! فبهذا لا تقحم نفسها في المآزق. والويل، كل الويل، لمن يرسل الكلام على عواهنه، ولا يبالي كيف جاء. مثل غيرها ممن يتطرّق لبعض المواضيع، فيلتقط كلامه بعض الناس، فينميه ويشيعه، حتى يتورّط قائلوه. ومع أنهن حاولن أن يبررن موقفهن. لكن الجماهير أبعد من أن تتحقق من صحة الأخبار.

كان شعرها الطويل، وهي تصوّر الرسائل، مفلتاً على كتفيها بإهمال مقصود. والأسئلة التي تردها عن بعض الأمور المهمة، التي لا بد من أخذها بالاعتبار أثناء وضع المكياج. قالت وهي تشرح لمتابعاتها مثل معلمة طيبة القلب: «منطقة الأنف وما حولها تفرز كثيراً من الدهون والزيوت، لذلك نحتاج إلى مادة أكثر كثافة من كريم الأساس الذي نضعه في سائر الوجه. فالأفضل كونسيلر».

أَبْنَاءُ الأدْهَم

دائماً ما تكون بيوت الشمال، متجهة إلى الشمال.

هذا ما قالته له في أول نطقٍ يخرج من بين شفتيها موجهاً إليه، مخترقاً قلبه مستقراً ـ مثل لحن ربابتهِ الجميلِ ـ في رأسه، صوت نديّ سكن في شغافه، يرتعش جسده بفرحٍ غامضٍ، هيابٍّ، يمسّ قلبه أولاً، وتسري رعدته في جسده كله، كلما استعاد مشهد انفراج شفتيها وهي تقول ذلك!

الآن، في هذا الصبح المبكر، وقبل أن يفيق العشب من حضن الندى، وقدماه تلامسان الأرض بهدوء وروية، وهو ينزلق من تحت الصخرة الكبيرة الملساء المنحنية كظهر عجوز، متحاشياً لمعان الطحلب الذي يغطيه سيلان الماء القليل والشمس تطل من أقصى الشرق، بعيدة ودافئة، وهو ينظر إلى الصخور العالية خلفه، وقمة الجبل بعيدة فرحاً للصقور التي تسبح في الفضاء الواسع، ماشياً بجانب الوادي، متجاوزاً غابة الطلح الصغيرة، ملتفتاً إلى خيمته الصغيرة، مبتسماً لناقته التي تلتقط الأغصان الغضّة، ورافعاً رأسه إلى السماء، ثم ناظراً إلى نهاية السهل المفتوح، حيث القرية المزروعة في كف الأدهم الكبير، منبسطة هناك، كأشباح متلاصقة، تميل إلى البياض، صغيرة تترجرج مع تذبذبات الصباح، وتنزاح من أمام ناظريه رويداً رويداً، على طول المدى، ومن خلفها امتدت سهول لا نهاية لها.

حين أقبل إليها مع الدرب المنحدر من الأدهم، بدت البيوت في عينيه ثابتة، كان فرحاً، وهو يضع قدماً تلو قدم تلو أخرى، على أرض الأحباب، مقترباً من البيوت الطينية الواطئة الصفر، بدا مضيء القلب، وهو يقترب من البيوت التي لا تتعدى العشرين بيتاً. ورغم وجود بعض الصغار في الباحة الكبيرة، إلا أنه لم يسأل أحداً منهم، كان سائراً بقلبه، مستنداً إلى ما قالته له، متذكرا صوتها:

-دائماً ما تكون بيوت الشمال، متجهة إلى الشمال، بيتنا هو آخر بيت في الشمال، بابه كبير، ومفتوح دائماً!

يذكر، وهي تنطق بذلك له، وتخطّ العلامات في رمل الأرض العذيّة، أنه انتفض فرحاً، وارتسمت العلامات على جدار قلبه، وهو ينظر إلى أصابعها الطويلة الطرية، ويقول:

-سأعرفه من رائحتك!

تخفض بصرها، وهي ترشقه ببعض الحصيات!

ككائنٍ مدرب على رهافة السمع، والشم، والبحث، والتنقيب، راح يشم بأنفه البيوت التي مرّ عليها، حتى توقف أمام البيت الأخير، لا يعرف لماذا دخل من الباب المفتوح، مثله مثل كل أبواب البيوت. في الواقع كانت تمس يديه وساعديه وظهره، تلك الرعشة، وقلبه ينبض بقسوة ويقول له:

-هذا بيت الحبيبة!

ولذلك وقف، رفع صوته، وهو ينادي على الشيخ مُرّان.

مرّ بباله أنه ربما أخطأ البيت، بعد أن هتف باسم اسم الشيخ للمرة الأولى، في المرة الثانية كان الصوت أقوى، ورغم ذلك كان مليئاً بالارتعاش، تردد كثيراً، وراح أنفه يعمل بجهد جاهد، حتى تمكن من الحصول على رائحة الحبيبة من داخل البيت للمرة الثانية، في هذا صباح قلبه هو ما أضاف أن هذا الصباح جميل.

ومن هنا خرج اسم الشيخ مران قوياً وواضحاً، وصريحاً في المرة الثالثة، مرت ثوانٍ قليلة حسبها العقل دقائق طوالاً، قبل أن يخرج اسم الشيخ للمرة الرابعة مرتعشاً، بعد أن مسّ قلبه الخوف للمرة الأولى، هجس أنه ربما أخطأ! أخطأ؟ لست قلبي إذاً! هكذا صاح عقله، وهو يرى قدميه الثابتتين في الأرض، تنسحبان إلى الخلف، وقبل أن يخرج من باب البيت، سمع أزيز صوت بابٍ من الداخل، وظهر رجل عريض، بلحية بيضاء كثيفة، يحزم وسطه بحبل، يتدلى طرفه بين فخديه، ويمسك منجلاً أسود من مقبضه الخشبي، تنحنح قليلاً قبل أن يخرج صوته قائلاً:

-أهلاً وسهلاً.

وهو يشير إلى الليوان.

تقدم الشاب بحركة خرقاء، مشى قليلاً، وانحنى بعد جدار قصير، داخلاً الليوان المفتوح من جهة الشمال، والذي لم يزل دافئاً، رغم برودة الجو خارجه. كانت النار تخبو، وقد تغطى الجمر بطبقة رقيقة رصاصية من الرماد، ووُضع بجانب بقايا الجمر إبريقُ اسودّ أسفله من أثر الدخان. جلس حيث أشار الشيخ الذي أمسك بالإبريق، ثم نظر إلى الشاب وقال:

تعال. اقترب هنا!

تحرك الشاب قليلاً حتى اقترب منه، وجلس، نظر إليه بثيابه الخشنة التي تحمل نكهة الغبار، صبّ الشيخ له فنجاناً من سائل شفاف يميل إلى الخضرة، ابتسم في وجهه قائلاً:

-نعناع!

ومد له الفنجان وهو يتطلع في هيئته بعينين باردتين. الشيخ ممسك بفنجانه، راشفاً منه على دفعات صغيرة، عيناه ما زالتا تتطلعان بعيني الشاب متسائلتين، ومشككتين، وربما داخلها الريب، ما إن أنهى ما في الفنجان، حتى أمسك الشيخ بالأبريق وصب له فنجاناً آخر، وقد تحول التساؤل إلى رثاء على حال الشاب المرتجف، والمرتبك بجلسته، بسرعة أنهى الشاب فنجانه، ومدّ يده إلى الشيخ، وهو يخرج ما يشبه الصوت قائلاً:

-بَسّ!

أمسك الشيخ بالفنجان، ورماه في طاسة الماء، وسحب قدحاً مغطى بغطاء خصفي، كشف الغطاء، وأدنى الطبق من الشاب، وقال باسماً:

-تفضل يا ضيفنا، هذا من تَمرِنا، وسمن غنمنا!

كان في وسط كومة التمر حِقّ صغير من خزف، وقد راج في وسطه سمن أصفر، أمسك الشيخ تمرة، وغمسها بالسمن حتى غطس نصف إبهامه وسبابته، ثم رفعها، وقذفها بفمه، وأخذ يمص الدهن السائل من إصبعيه، وهو ما زال يحيط الشاب كاملاً بنظراته، منتظراً أن يأكل، كانت تلك النظرات تكسو وجهه بالرعب. تناول الشاب تمرة وغمس طرفها بالسمن، ووضعها في فمه بارتباك؛ مرت ثوانٍ، وهو يحاول تمالك نفسه؛ ليبدأ ما خطط له، لكن تلك النظرات التى اخترقت جسده لم تمكنه من فتح فمه، لاحظ الشاب طرف ابتسامة ماكرة على فم الشيخ، وهو يقول بصوتٍ تعمدّ أن يكون مليئاً بالراحة والهدوء:

-نعم يا ولدي!

كانت الكلمة مليئة أيضا بالسخرية، مما جعل الدفء الذي انساب في جسد الشاب، منذ دخوله الليوان ينسحب بعيداً ويمتلئ جسده وروحه معاً بالصقيع. ترددت عبارة (يا وليدي) في عقل الشاب كضربات متتالية، قال في نفسه:

ـ-يا لسخريتك أيها العجوز! لقد نسفت اعتزازي بذاتي تماماً، بمجرد خروج تلك العبارة من فمك، كدت أتكوّر على نفسي وأنت تتابعني بعينيك اللتين تحولتا إلى جمرتين، تمسحان جسدي كله وتحرقانني!

أخيراً بلل الشاب لسانه الناشف، وهو قلق ممّا سيحدث وجاهل بما يمكن أن يفعله بتلك النظرات القاسية التي تشبه نظرات حيوان بري وقال:

-يا عمي أريد الزواج من ابنتك!

خرجت الكلمات التي احتار كثيراً في ترتيبها ليلة أمس، جافة، وقاسية، مليئة بالخنوع والمذلة.

back to top