حبر و ورق

نشر في 09-12-2017
آخر تحديث 09-12-2017 | 00:02
No Image Caption
الأشوس

مطر يغسل الذاكرة

الرياض نوفمبر 2007

حين قرأتُ الخبر عرفتُ أني تعاملت مع موتِ أحلامي كناجٍ من الانهيار لا كَضحية، الآن وحدِي بعد كل هذه السنين التي ناءَ بها كتفاي أجلسُ على كرسِي الخيزران الهزاز قرب طاولةٍ سطحُها الزجاجي المغبر قليلاً تحول إلى بقعٍ من الطين بلون النُحاس، وَضعْتُ عليها كوب قهوتي ورواية العِطْر (قصة قاتل) للكاتب الألماني باتريك زوسكيند، أقرأُها رُبما للمرة الثالثة منذ أواخر عام 2005. أُطل على العالم من شرفة الشقة في الدور الخامس في بناية الفلك على شارع الملك عبد الله في الرياض، أرفعُ رأسي أشاهد قطرات المطر المغرية تتساقط من الغيم الرمادي فيؤرجِحُه الهواء ليسقط رقيقاً ليبلل رأسي ووجهي. للمطر في الذاكرة أرشيفٌ من الكلمات والصور والأحاسيس القاسية والناعمة، الشرسة والخانعة، وخفقات ضميرٍ يكتنفه الحب والهجر وبعض الدموع وبعض الفرح.

طويتُ جريدةَ المشرق المتوسط وألقيتُها في سلة المهملات وكنت أحتاج فقطْ للحظة هدوءٍ أربتُ فيها على أوجَاعي، كان وجه حمد القسمان في الجريدة لا يختلف كثيراً عنه حين قابلتُه أول مرةٍ سوى أنه يبدو طلقاً وسعيداً في حفل زواج كريمتِه الوحيدة من رجل الأعمال البريطاني محمد برادلي سميث بحضور كبار الشخصيات العربية والأجنبية وممثلي السفارات في العاصمة البريطانية لندن.

صار الشارع يخلو من كثرة السيارات، وخفَّتْ رويداً رويداً الأصوات المزعجة، وبقي صوت المطر يلامسُ القلب ويهزُّ الإحساس بالشوق.

كلما أمطرتْ سماء الرياض تذكرت جوزا. المطر في الرياض لا يشبه أيَّ مطرٍ في أيِّ مكانٍ في الدنيا هو مطرٌ مراوغٌ وعنيد، أحياناً يتعاون هو والريح فيشتد ليعصف بأشجار الفكس والأكاسيا ويُسقطُ ورود أشجار الياسمين الهندي الكبيرة البيضاء المزروعة دون تنسيقٍ في وسط جزر الشوارع فيقتلعُها ويلقي بها أمام سيارات العابرين، وأحياناً يأتي بخيلاً لا يروي ظمأ العاشقين له والمتلهفين للشتاء. لا أحدَ يعرف بالتأكيد متى يَحنُّ على الأرض فيعانقُها؟ أو متى يُجافيها فيهجُرها طويلاً ويقسو عليها؟ لكنه وفي كل مرةٍ يهطل يُعذّب الذاكرة القلقة التواقة لحلِّ ألغاز الزمن وأوهام الماضي، عندما يأتي شديداً ليسمَح لقطراته أن تمتص الغبار العالق في أجواء الرياض المغبرة أصلاً، فيكون لقطرات مطر الرياض طعم ورائحة الطين الذي كون تاريخ البشر، منذ الخليقة حتى عصر الإسمنت المسلح، الذي غير وجه الرياض. وتنكَّر الناس لعُهود كان الطين فيها سيد الحماية لأسرار الناس حين يختبئون من غدر الزمن ووحشة الليل ولهيب الصحراء تحت أسقف بيوتهم الطينية البسيطة، الحنونة أحياناً والقاسية أحياناً أخرى. تلتصق الأجساد والحكايات والرغبات الطاهرة منها والملوثة، العفيفة والفاسقة، الطفولية والكهلة، العلاقات الإنسانية العادية والعلاقات الشبقية الفطرية، الممنوع في عرفهم والمسموح أيضاً. كل هذا وأكثر يضجُ عند هطول المطر فيحيِّر تفكيري ويتعب مشاعري كما هي أحاسيسي الآن. كلما صار المطر هادئاً وحنوناً سرحت الذاكرة بشوق للعناق والتَلذذ بذكريات مَلمس الحرير والدفء في راحتي وذراعي جوزا، راحتيها اللتين تركتهما دون آخر لمسة تنبض بالحنين بعد أن غادرتها متسللاً دون أن تعرف، من شقتها في الطابق الرابع من البناية السكنية التي تطل على شارع كرزون على بعد مربعين سكنيين من فندق الدورشستر أشهر فندق في لندن قرب الهايد بارك.

التقيتُ جوزا في موسم المطر عام 2003 ومنذ مساء تلك الليلة مرضتُ بميكروبها، وعانيت من فيروسها الذي تغلغل في كريات دمي بجميع ألوانها، وتعلمت من التجربة معها كيف تكون الحرقة والوله والمراوغة، وكيف أخذتني لأسافر معها عبر نفق الزمن لأتمسك بها، أبحث عن حب وعن عشق أُنثى يرضي حلمي للحصول على انتماء يغريني للتعلق بهذه الأماكن والوجوه والشوارع التي أعيش فيها تحولات التاريخ وتبدُل أطماع الناس دون أن تعني لي الكثير. جوزا بعاطِفتها ومواقِفها الندية والحنونة الكثيرة والآسرة دفعتني إلى التعلق بها بأناة كصياد صبور رمى بسنارته في بحر الزمن وجلس يَحسِب الوقت. عشقت فيها تأثيرها المجهد الحنون والعنيد وطريقة تعلقها بـي في ذلك الوقت المتأزم من أيام حياتي، في خبايا الذاكرة لم أنسَ ذلك المساء بكل تفاصيله المفرحة والمترحة حين خرجت مساءً من جريدة الجديدة بعد أن أثنى رئيس قسم التحقيقات في الجريدة على تحقيقي الصحفي عن الأحياء العشوائية المنتشرة في الرياض العاصمة. تحقيق صحفي كنت مُتشبثاً بكل تفاصيله فهو جزء من حياتي، بل الحقيقة هي أن هذه العشوائيات هي كل ما يمتُ لحياتي حتى الآن بصلة وخاصة أني ولدت وتربيت وعشت، فرحت وحزنت، تمردت وتعلمت في وسط وبين ثنايا أكثر عشوائيات العاصمة شُهرةً وحيويةً وأيضاً أكثرها بؤساً إنسانياً. كنت مُنتشياً بأجواء بداية الشتاء ومبتهجاً رغم الظروف والإحساس بالفقد والوحدة وقلة الحيلة والحاجة لصديق.

بسبب حسي الصحفي أو بسبب قدرٍ في الخفاء رُسم لي ذلك اليوم دون مقدمات أو توقع تعرفت إلى جوزا. في زحمة وسط الرياض بعد أن خرجت من الشارع الفرعي للجريدة في حي الصحافة إلى الشارع الرئيسي متجهاً إلى شارع أبو بكر الصديق عن طريق شارع الملك فهد، وطلال مداح يصدح بصوته الرخيم «وردك يا زارع الورد» تخطتني سيارتان من نوع نيسان مكسيما يبدو أنهما في سباق محموم ولحسن حظي وسوء حظ سائق اللينكن السوداء التي تسير أمامي احتكت مقدمة سيارة المتسابق الثانية بمؤخرة اللينكن السوداء، ونجا قائد سيارة السباق من موتٍ محقق لبراعته في تجاوز السيارات التي أمامه واختفى في زحمة الشارع. اللينكن السوداء ارتطمت مقدمتها بالجدار الخرساني تحت الكبري. أوقفت سيارتي وخلعت عِقالي وغترتي والطاقية عن رأسي وتلمست كاميرا «الكنون» في المقعد بجانبـي ونزلت أهرول باتجاه اللينكن وحين وصلت كانت امرأة آسيوية قصيرة وسمينة ترتدي تنورة سوداء وسترة صوفية رمادية قد فتحت الباب الخلفي وهي تصيح:

- مدام جوزا... مدام جوزا!!

فقفزتُ لجهة الباب الخلفي الأيمن للينكن وحين اقتربت فَتحت الفتاة الباب بهدوء وقالت:

- أنا بخير...!!

استدارت المرأة الآسيوية حول خلفية السيارة وأمسكتها من يدها وساعدتها للخروج من السيارة ووقفت مدام جوزا تُصلح إحكام الوشاح حول رأسها، وحين شَوحت به في الهواء عَبقت في أجواء المطر رائحة عطرٍ بألوان قزح يشد الروح من تلابيبها، عطر خلاب ونرجسي لا يشبه رائحة العطور التي أعرفها ولا أعرفها، لكنها رائحة عذبة تعلق في أقاصي الذاكرة، تَلفتت جوزا تنظر حولها محرجة فقلت لها:

- يمكنك الجلوس في سيارتي.. لتتقي البلل.

وأشرت إلى سيارتي قرب الرصيف في الخلف.

سِرت أمامها وأوصلتها إلى سيارتي، وحين استدرت لأراقبها رأيتها تمشي على مهلٍ وهي تعرُج، فتحت لها الباب الخلفي وأزحت بعض الكتب المتناثرة في المقعد وضربت المقعد بكفي كي أنفض غبار شوارع الرياض العالق فيه فسقطت رواية زوربا في قاع السيارة. جلست جوزا تاركة باب السيارة مفتوحاً وقدماها على طرف الرصيف، حين رفعت قدميها لتعتدل في جلستها ولتستند جيداً في مقعد السيارة لاحظتُ أن قدمها اليمنى الصغيرة البيضاء وأظافرها تشع بلون فسفوري لامع ووردي ومبهج لكنها دون حذاء. عدت إلى السيارة اللينكن وأخرجت السائق من أمام الوسادة الهوائية التي انفجرت جراء الاصطدام ونثرت غبارها الأبيض على وجهه وعلى معطفه الجلدي الأسود، ورأيت الدم يسيل من أنفه على شفتيه وذقنه فسحبته وأسندته إلى مقدمة سيارته فراح ينفض الغبار عن ذراعي معطفه ونسي أن يلمس أنفه. أشرت إلى الدم على أسفل وجهه ففتح السيارة وأخرج علبة مناديل وراح يمسح أثر الغبار عن صدر معطفه فابتسمت له وتركته يرتب حاله كيفما يريد ويحلو له، سمعت جوزا تنادي ميري أن تركب قربها. بدأ الشباب محبو الفرجة بالتجمهر قرب موقع الحادث، فاتصلت بشرطة المرور أبلغ عن الحادث والموقع وأخبرتهم بضرورة إحضار سيارة إسعاف لمعالجة السائق. كنت أنظر إلى بِرك المطر تنساب من انحدار جانب الطريق الرملي إلى الأسفلت فلمع قرب عجلة اللينكن الخلفية، بسبب انعكاس أضواء السيارات في الشارع حذاء جوزا الفضيَّ، سرت إليه وحملته وعدت به إلى جوزا، وحين أردت أن أنحني وأضع الحذاء أمامها رَفعتَ جوزا رأسها تنظر إليّ مبتسمةً بامتنان وتناولت حذاءها بخجل هادئ وجميل وقالت:

- شكراً.

قلت بمودة:

- العفو.

ابتسمت لي وهي تقول:

- قرأت هذه الرواية؟

قلت:

- نعم!!

وهي تنظر إلى الأرض قالت:

- ممتعة!!

لم أجد غير أن أرد بقولي:

- بكل تأكيد!!

حينها أدركت أنها تنظر إليّ بحذر وقالت:

- جميل!!

قلت لها دون تردد:

- تستطيعين أخذها... أستطيع الحصول على نسخة أخرى بطريقة ما.

وصل رجال المرور والإسعاف. وطلب رجل المرور مني أن أكتب إفادتي عن السيارة التي تسببت بوقوع الحادث بسبب إصابة سائق اللينكن وطلب أيضاً أن أكتب اسمي ورقم هاتفي وأن أوقع على محضر الحادث كشاهد. عُدت أتكئ على مقدمة سيارتي. جاءت سيارة أخرى سوداء أيضاً، نزل منها رجل يبدو في الخمسين من العمر، طويل وممتلئ ووقور، سَمعتُ جوزا تقول:

- هذا أبـي!!

أمسكت ميري بيد جوزا تساعدها على النهوض ويد جوزا الأخرى تمسك بالرواية التي ودعتها ودعوت في سري لنيكوس كازانتزاكي ولجورج طرابيشي بكل حب، وحسدت روايته التي ستحتضنها كفّا سيدة جميلة لها صوت المطر الحنون وستبرق عيناها العسليتان المشوبتان بالرهبة والفتنة كما ارتسمتا في ذاكرتي وهي تنظر إليّ حين تعانق بحدقتيها الصافيتين أحرف الرواية. حين هَمت بركوب سيارة أبيها المرسيدس السوداء تَرددت قليلاً، تَلفتت وكأنها تبحث عن شيء سقط من مُخيلتها في غفلة من الزمن وحين التقت نظراتنا الحائرة عبر رذاذ المطر المشع تحت أضواء الشارع الصفراء، تَرددتُ أن أرفع يدي ملوحاً لكنها ابتسمت لي. كانت شفتاها الورديتان تشعان بالغموض الخلاب والرغبة والحنان. أَغلقتَ جوزا باب سيارة أبيها وغادرتني تلك الليلة جوزا كجوزاء، وبقيت أنا على الأرض أتنفس رائحة المطر والناس والغبار الساخن المشبع بالكربون في مساء الرياض البارد كما هو حالي في كل سنة في مثل هذا الوقت من الزمن السرمدي.

صورت الحادث لتوثيق التحقيق الصحفي الذي فكرت به لنشره في الجريدة عن جنون السرعة والتهور في القيادة. كلما أومض ضوء الكاميرا برقت عينا جوزا في مخيلتي المرتبكة وتأسفت أني لم أحصل منها على وسيلة للاتصال، هي لم تفعل وأنا خانتني الجسارة ولم أستطع المبادرة كعادتي المتربصة دوماً بـي عندما أقابل أنثى فخمة تهز القلب مثل جوزا في الرياض.

حروق الثلج

بين الدجاجات الطليقة التي تنقر في رماد المناقل يفكر نجيب، يصوّب جيداً، ثم يضرب بمعوله بحذر. منذ أن مرَت الجرافة بجانب منزله منذ حوالي أسبوعين، يتوجس من الجورة الصحية. يعرف أنه هو شخصياً ومعه المعول والدجاجات ليسوا بعيدين عن الجورة. مع ذلك سيستمر نجيب بالحفر محاولاً أن يجد المزيد من القطع النقدية القديمة.

وجد هادي الصغير، ابن جاره، بجانب الجورة عقب مرور الجرافة قطعتين من معدن سوداوين مستديرتين. دلف الصغير بهما يومئذ إلى البيت، غسلهما بالخل وعصير الليمون عاملاً بنصيحة جدته، فتوضحت عليهما كتابات قديمة. تبيّن أن القطعتين، مجهولتا المصدر واللغة، قيّمتان جداً على ذمة الأستاذ نبيه مدرّس التاريخ في التكميلية.

بعضُ من سمع خلاصة الأستاذ نبيه قال إنه يثرئر، ثم عاد هادي الصغير ليبحث لاحقاً عن المزيد، وبحث حيث يحفر نجيب الآن. ومع أن الصغير ذاع صيته بالشيطنة والرذالة أقرّ، ربما لسعادته المفرطة، بما وجده، بمجرَّد أن سأله نجيب الذي استغرب وجوده داخل أرضه.

طرد نجيب الأصلع، الصغيرَ هادي بعد أن نفض سيجارته في وجهه، خصوصاً وأن بقايا عظام متناثرة في حافّة الطريق المقطوعة، كحلوى، أثارت انتباهه، وقدّر فوراً أنها تعود لمقبرة ما. تشابكت الأفكار في رأس العسكري المتقاعد بطريقة لم تحصل له منذ مدة. لو أن الأفكار تُسمع مثلما يُسمع هدير الآلات لسُمع صخب أفكاره وطقطقتها في رأسه عن بعد عشراتِ الأمتار كأنها مجموعةٌ معدنية لآلة من عصر الميكانيك.

يأمل نجيب أن يجد تحت المقبرة والجورة الصحية كنزاً يثريه إلى ما شاء الدهر. إلا أنه حتى هذه اللحظة بالذات التي يضرب فيها معوله بحذرٍ، ليس هناك من ضلعٍ مؤكد في ثالوث المقبرة-الكنز-الجورة سوى الأخير. وعليه فثمة احتمالٌ بأن يكون مثلث نجيم بضلعٍ واحد.

تقدمت صبية نحيلة بعض الشيء على الطريق الجديد، تنتعل خفّا أبيض، وتعاني في مشيها من وخز البحص الذي لم يُحدل جيداً. كانت تحمل صينية غطت وجهها بخرقة بيضاء مقلمةٍ بالأحمر، وترددت في المرور بجانب نجيب كي تسلم عليه، فالنقطة حيث وقف الرجل يشرب سيجارته وسخةٌ حقاً، ورؤية الأشواك وتلال الرماد والدجاجات السارحة جعلت الصبية تتراجع. وسرعان ما اتخذت قرارها ووفّرت مشقة العبور على نفسها، فحيّت نجيب من حيث هي:

_ يعطيك العافية عمّي، هدى في البيت؟

ابتسم نجيب للصبية بسعادة بالغة قد لا يفهم سببها من يراه واقفاً في هذه المزبلة حيث هو، ثم قال لها إن هدى زوجته - الله ينجينا - تشاهد مسلسلاً سوريأ من المسلسلات الأربعة.

وأضاف قائلاً:

- آمل أن لا تبدأ بالمسلسلات التركية وإلا متنا جوعاً.

صعدت منال درج البيت بخفة ثم دخلته بعد أن طرقت الباب مرتين من دون أن يأتيها جواب. اتجهت إلى المطبخ، فسمعت من هناك أصوات الممثلين الصادرة من التلفاز. شمّت رائحة سائل تنظيف، ثم قفزت فوق الهوفر المتروكة في وسط الردهة، فتحت البراد بهدوء ووضعت فيه الصينية التي حملتها معها. دلفت بعد ذلك إلى الصالون حيث جلست هدى تتابع المسلسل. الساعة المعلقة على الجدار كانت تشير إلى الثانية إلا خمس دقائق ما يعني أنه تبقّى القليل حتى ينتهي المسلسل.

نهضت هدى كأنما هناك حالة طارئة، أمسكت منال من معصمها وأجلستها بجانبها على الكنبة حتى انتهت الحلقة التي شابت دقائقها الأخيرة موسيقى خطر مبتذلة. وسألت منال أم جوزيف عن الفراريج فأجابتها أنها جاهزة وعليها أن تذهب إلى البلدة لتحضرها. فمن المفترض أن يصل جوزيف غداً عند العاشرة وسيتبعه المدعوون بدءاً من الظهيرة. وتقول معلومات نجيب أو أبي جوزيف، المنهمك بتحديد الجورة الصحية لردمها لاحقاً على ما تعتقده الزوجة، إن العميد الأفيوني خدم العائلة وجوزيف فنقله إلى مركزٍ في الجوار، وأردفت أم جوزيف:

- هه! وكيف لا يخدمنا؟! عمّك شاله، أنقذه من الموت في الأيام السؤداء... سحبه مثلما تسحب الشعرة من العجين!

المناسبة يوم غدٍ كبيرة حقاً. بالنسبة إلى منال وأم جوزيف ثمة أمران يستحقان كل هذه الأتعاب. خطبة جوزيف ومنال، والاحتفال بعودته إلى المنطقة بموجب التشكيلات التي أنجزها العميد الأفيوني. أضف إلى هذين السببين سبباً أخيراً للاحتفال سيشرب أبو جوزيف المتقاعد نخبه سراً، إنه الكنز الذي لا بد أنه مطمور في مكان ما في أرضه، ربما يكون تحت الجورة.

نزّ قلم الحبر الأزرق في جيب جوزيف بينما كان يقود السيارة في اتجاه مركز عمله الجديد، وهو مركز معزول على مقربة من قرية ميم الحدودية في شمال لبنان . تمدّدت بقعة الحبر على بدلته العسكرية المرقطة من دون أن ينتبه إلى ذلك. نظر إليه الرقيب المسؤول عن مركز قوى الأمن الداخلي وأدرك أن القلم فار قبل قليلٍ على صدره، وأنه لم يتقصد الإهمال أبداً. من الواضح أنه خرج من بيته بحلة مرتبة، فجزمته تلمع، وذقنه حلقت للتو. نظر إليه وقال:

ليش لازم لك قلم الحبر؟

شربا القهوة وحدهما، فـالعرصان الآخران، كما قال الرقيب سيتأخران في التنور. ساد صمت بسيط واصطنع الرقيب هيئة المشغول البال، فأخذ يرتشف القهوة مصدراً صوتاً قوياً، وراح يتطلع تارة إلى السيارة الرباعية الدفع في ساحة المركر، وطوراً إلى شباك المكتب ما أوحى لجوزيف أنه أضاع شيئاً ما ولا يعرف إن كان سيجده في السيارة أم في المكتب.

مرّ الوقت بسرعة. حدّث جوزيف الرقيب عن الحرّ في بيروت وعن سعادته بالعودة إلى المنطقة. وبعد حوار فارغ مملّ شرح الرقيب لجوزيف عن كلّ شيءٍ في المركز وسلّمه قطعته الأميرية، وهي نسخة سلوفاكية عن بندقية الكلاشينكوف الروسية، ثم قال له إن بإمكانه حملها معه إلى البيت إن شاء، لكنه حذره من إضاعتها بعد أن أخذ توقيعه. وأضاف متفلسفاً:

شيئان لا تجوز إعارتهما، السلاح والمرأة.

أشار الرقيب إلى سيارة الـ«جي. أم. سي.» الرباعية الدفع يعلوها جهاز لاقط وقال له إنها سيارة الدوريات الوحيدة في المركز، لكنه أبلغه بأنه لن يقودها قبل أن يصبح آمر آلية، فالعقوبة ستكون قاسيةً لو قادها من دون الشهادة العسكرية. فهم جوزف أن الآلية يجب أن تركن خلال النهار حيث هي الآن، وأن من واجبه تذكير الزملاء دائماً بركنها ليلا خلف المركز، بلصق الحافة، حماية لها من قصف محتمل قد يندلع من الجهة السورية المقابلة. فبحسب الرقيب، إن الجيش السوري على استعداد لإطلاق وابل من النيران إذا رأى ثعلباً يتحرّك في حرجة النهر.

back to top