التشاؤم... هل يحمل جوانب مفيدة؟

نشر في 09-11-2017
آخر تحديث 09-11-2017 | 00:00
No Image Caption
تفيض ثقافتنا برسائل مبهجة تدعونا إلى التفكير الإيجابي. في المقابل، ننظر إلى التشاؤم كأنّه عيب أو إعاقة، ولكن هل يحمل في الحقيقة فوائد خاصّة به؟
يُعرّف التشاؤم غالباً بأنه توقّع للنتائج السلبيّة خصوصاً في الوعي الجماعي. فمن يرى نصف الكوب الفارغ بدل الملآن يُعتبر رسول الهلاك والكآبة. والأهمّ من هذا، يرتبط التشاؤم أحياناً بمخاطر على الصحّة، بحسب دراسة تؤكّد أنّ خطر الموت جرّاء أمراض القلب يرتفع لدى المتشائمين. يبدو هذا التفسير منطقيّاً نظراً إلى أنّ المتشائم، بطبيعة الحال، يقلق دائماً ويتوقّع أسوأ نتيجة ممكنة في الحالات غير الأكيدة كلّها. ولكن هل نرتكب خطأ حين نرفض التشاؤم؟ وهل يفوتنا أي أمر حين نشدّد على التفكير الإيجابي؟

تشاؤم دفاعيّ

تؤكّد جولي نورم، باحثة في قسم علم النفس في جامعة ويلسلي في مدينة ماساتشوستس، على أنّ للتشاؤم بدرجة معيّنة فوائد. نال كتابهاThe Positive Power of Negative Thinking (القوّة الإيجابيّة للتفكير السلبي) اهتماماً كبيراً من الإعلام. تستند فيه إلى بحوث سابقة لتدافع عن كون التشاؤم أداة تأقلم وتحضير استراتيجيّات في حالات عدة، وهذا ما يطلق عليه مسمى «التشاؤم الدفاعي».

آليّة تأقلم وتخطيط

في مقابلة للدكتورة نورم، وصفت «التشاؤم الدفاعي» بأنّه «استراتيجيّة فاعلة للتعامل مع الاضطراب النفسي ولا يؤثّر سلباً في الأداء». وتتابع حديثها: «إذا كنت تشعر باضطراب نفسيّ عليك القيام بأمر ما حياله. يحاول الناس إجمالاً الهرب من كلّ ما يسبّب لهم الانزعاج، لكن ثمّة طرائق أخرى للتعامل مع هذه الحالات، من بينها التشاؤم الدفاعي». فتشرح أنّ الجانب الرئيس للأخير هو تخيّل أسوأ نتيجة محتملة، من ثم وضع استراتيجيّة عمل في حالات الضرورة.

وتقول: «حين يفكّر المرء وفق التشاؤم الدفاعي، لا يتأمّل كثيراً بالنتائج ثمّ يخطو الخطوة التالية التي تنصّ على التفكير بطريقة ملموسة وحيويّة بالأضرار المتوقعة». تسمح هذه الطريقة للمتشائم الدفاعي بوضع مخطّط مسبق والتحضّر بشكل أفضل للمعوقات».

وتخبر د. نورم: «وجدنا في البحث أنّ من يتصوّر السيناريوهات السلبيّة بطريقة محدّدة، يستطيع وضع خطّة تجنّبه الكارثة فيقدّم أداء جيداً. كذلك تساعده هذه الاستراتيجية في توجيه اضطرابه النفسي نحو نشاط إنتاجيّ».

بناء على ما سبق، تعترف الكاتبة بوجود عوائق محتملة للتشاؤم الدفاعي، من بينها نظرة الآخرين إليك، خصوصاً إذا كنت تتصوّر هذه السيناريوهات السلبيّة بصوتٍ عالٍ. فربّما يسيء الآخرون فهمك، ويعتقدون مثلاً أنّك غير مؤهّلٍ لاستلام عمل ما في المستقبل.

من المشاكل الأخرى المحتملة نذكر تخيّل سيناريوهات كارثيّة غير محدّدة. وتوضّح د. نورم هذه النقطة قائلة: «حين تخرج الأمور عن سيطرتك في ما يتعلّق بالتشاؤم، ستزيد العيوب الداخليّة لديك، فلا تكتفي بالتفكير بالاحتمالات السلبيّة بمعناها الحقيقي. وهذا ما يعتبره الأطبّاء تهويلاً للأمور. مثلاً، بدل أن تخشى فشلك في مقابلة عمل، تقول لنفسك: ستنتهي هذه المقابلة بكارثة لأنّ الفوضى عارمة في حياتي». وتشرح الدكتورة، «إذاً الدقّة هي الحلّ للحصول على تأثيرات إيجابيّة بدلاً من السلبيّة».

يُشار إلى أنّك تستطيع إجراء اختبار الدكتورة نورم عبر الإنترنت لترى ما إذا كنت مؤهّلاً لتصبح متشائماً دفاعيّاً.

أعراض جانبيّة للإيجابية

يمنعك التفكير الإيجابي أحياناً من تحقيق أفضل النتائج على الصعيدين الشخصي والعملي. فوضع آمال عالية على المستقبل، يؤدّي في بعض الحالات إلى اتّخاذ قرارات سيّئة. وتشير دراسة إلى أنّ الناجين من إعصار يتفاءلون بشكل غير صحّي، معتقدين أنّهم لن يتأثّروا بأي إعصار آخر على الأرجح. أي أن سوء الحظّ الذي لم يصبهم في المرّة الأولى سيخطئ الهدف في المرّة المقبلة أيضاً. تتجاهل طريقة التفكير هذه حقيقة أنّ نظرتهم إلى هذا الأمر ليست واقعيّة بالضرورة، وستمنعهم من التحضّر للحوادث السلبيّة لاحقاً.

تفاؤل يؤثّر في الأداء

يشير بحث إلى أنّ من يتخيّل مستقبله باهراً يقلّ احتمال سعيه إلى تحقيق هذا السيناريو بنشاط في الحياة الواقعيّة. هذا ما أظهرته سلسلة من الدراسات أقيمت على شباب أميركيّين. عندما انخرط هؤلاء في التخيّلات الإيجابيّة حول مستقبلهم، تبيّن أنّ تصوّر نجاحهم في تحقيق أهدافهم أثّر في الطاقة التي يحتاجون إليها للسعي وراء هذه الأهداف في الحياة الواقعية.

ويستنتج معدِّو الدراسة ما يلي: «رغم أنّ الإيمان بأن الرؤية الإيجابيّة تحقّق النجاح أمرٌ مغر، فإن ذلك ليس دائماً مبرّراً. بدل أن تعزّز التخيّلات الإيجابيّة الإنجاز، تستنزف طاقة طالبي العمل اللازمة لتحقيق هدفهم ونيل مرادهم».

كذلك يضعف بعض أنواع الإيجابيّة قدرة الأزواج الجدد على حلّ المشاكل التي يواجهونها في علاقتهم، فيؤدّي هذا أحياناً إلى تدمير الرابط الذي يجمعهم. وجدت دراسة أنّ في الزواج المبكر، الأزواج الذين يبدون تفاؤلاً، أو يفكّرون عادة أن الأمور ستنتهي على ما يرام لو مهما كلّف الأمر، يملكون قدرة عالية على حلّ أية مشكلة تواجههم. أمّا أولئك الذين يبدون تفاؤلاً تجاه علاقتهم، أي أنّهم يتفاءلون للغاية من ناحية توقّعاتهم من الشريك، فلا يملكون نهجاً بنّاء لحلّ الأزمات ولا فاعليّة في التعامل معها.

صحّة وتفاؤل أو تشاؤم

رغم أن بعض الدراسات يزعم أنّ التشاؤم يشكّل خطراً على الصحّة، خصوصاً في ما يتعلّق بأمراض القلب، فثمّة دراسات تسلّط الضوء على التأثير الوقائي لتوقّع النتائج السلبيّة.

الصحّة العقليّة

حُدّد التفاؤل في السابق كعامل خطر للإصابة بالاكتئاب لدى الراشدين. وتشير دراسة إلى ارتباط بين أنماط التفكير السلبي وبين اضطرابات المزاج في مرحلة لاحقة. رغم هذا، فإنّ المتفائل يبقى عرضة للاكتئاب في مرحلة ما بعد الحدث المؤلم. يشرح مؤلّفو الدراسة أنّ هذا الأمر يتعلّق بالفئة العمريّة وليس باعتبارات أخرى. ويقولون: «ربّما يكون التشاؤم غير واقعي أو غير دقيق في حياة الشباب، ما يعرّضهم لخطر الاكتئاب. لكنّ النظرة إلى الأحداث تتغيّر مع التقدّم في السنّ، فيصير التفاؤل بحد ذاته أقلّ واقعيّة ويبدو كعامل خطر للإصابة بالاكتئاب».

يدلّ هذا التحليل على أنّ تخيّل السيناريوهات الباهرة عن المستقبل يؤثر إيجاباً في المزاج على المدى القصير. أمّا على المدى البعيد، فتصير هذه العادة مؤشّر اكتئاب واضطرابات أخرى. تذكر د. غابريال أوتينغن، المؤلّفة الأساسيّة للدراسة من جامعة نيويورك، في مقابلةٍ لها أنّ «من بين المشاعر الإيجابيّة كلّها يُعتبر التفاؤل بشأن المستقبل أكثرها إثارة للسخرية. فتماماً كالسعادة، تسبّب التخيّلات الإيجابيّة عن المستقبل إحباطاً عميقاً. يُقال: احلم بالشيء تحصل عليه، لكنّ هذا الكلام يحدث إشكاليّة. فالأفكار المتفائلة تؤجّل خسارة الوزن لدى السمين، وتقلّل احتمال أن يتوقّف المدخّن عن التدخين مثلاً».

احتياطات

تشير دراسة لمعهد علم النفس للشيخوخة في جامعة إيرلانغن نورنبرغ الألمانيّة إلى أنّ «جرعة صحية» من التشاؤم تؤدّي دوراً وقائيّاً تجاه الإعاقة والوفاة. فالمسنّون الذين يتوقّعون تراجع الرضا عن حياتهم مع تقدّمهم في العمر لا يكونون عرضة للموت المبكر أو العيش مع إعاقةٍ مقارنةً بمن يضعون آمالاً أكبر على الرضا في حياتهم. ويوضح الباحثون: «يعزّز النظر إلى مستقبل مظلم التقييم الإيجابي للذات ويسهم في أخذ الاحتياطات».

لذلك، اطمئنّ في المرّة المقبلة التي تنزعج فيها من أنّك تنظر إلى نصف الكوب الفارغ؛ فأنت على الطريق الصحيح! يمنحك هذا دافعاً إضافياً لملء الكوب حتّى الشفّة.

التفكير الإيجابي يمنعك أحياناً من تحقيق نتائج جيدة على الصعيدين الشخصي والعملي

تخيّل سيناريوهات باهرة عن المستقبل يؤثر إيجاباً في المزاج على المدى القصير
back to top