مولانا

نشر في 17-10-2017
آخر تحديث 17-10-2017 | 00:00
 د. نجمة إدريس حين تقرأ في رواية "مولانا" لإبراهيم عيسى، تجد نفسك مستحضراً، وبشكل تلقائي، أحداث ومشاهد رواية "عمارة يعقوبيان" لعلاء الأسواني، لأن الروايتين، أولاً، تخوضان– وإن بشكل فجّ– في أكوام الفساد، وتنبشان روائحه "المنتنة" في المجتمع المصري حالياً، وهو يعاني مخاضات شتى على الصعيد الاجتماعي والسياسي والأخلاقي. وثانياً، لأن الروايتين تبدوان أقرب إلى السيناريو السينمائي في العرض واللغة والمشاهد، منها إلى التقنية الروائية والحسّ الأدبي. وإن كانت رواية "عمارة يعقوبيان" تم إنتاجها سينمائياً، فأعتقد أن رواية "مولانا" ستأخذ دورها في المعالجة السينمائية قريباً.

حين أرى أن نسخة "مولانا"، التي بين يدي هي الطبعة العاشرة خلال خمس سنوات، أجدني مدفوعة إلى الحديث عن الفرق بين "الصيت الأدبي" و"الصيت الجماهيري". ورواية "مولانا"، بلا شك، حققت صيتاً جماهيرياً لافتاً، لخوضها المباشر في ظاهرة ركوب موجة التديّن، وما مثلته هذه الموجة من مأزق عقائدي وسياسي وأخلاقي. وهو من الموضوعات الساخنة والشائكة التي لا تزال تطبخ على نار الجدل والسجال ومتناقضاتهما. فيأتي المؤلف ليقتبس من أوار الواقع المعيش، ويحاكي ما يضجّ في قلوب الناس، ويخالط حياتهم من غثاثات ومشاهد فسادٍ وتسلط وخداع باسم الدين. فيأتي إقبال الجمهور على هذا اللون من القراءة، كنوع من تفريغ الهموم، حين ينوب الكاتب عنهم في القول والتعبير وملامسة المخاوف والجروح.

أما "الصيت الأدبي"، فهو شيء مختلف، ويمكن التدليل عليه بأعمال نجيب محفوظ، تلك الأعمال التي تم الاشتغال عليها بصبر وأناة، معززَين برؤية راسخة ومدروسة للحدث الروائي وأبعاده التاريخية وإفرازته الاجتماعية التي تتكون على مهل، وبلا "لهوجة" واستعجال. لقد ترك لنا محفوظ إرثاً روائياً ووثائقياً عن قاهرة مصر، وعما مرَّ به المصريون من تحولات وانعطافات اجتماعية وسياسية فاصلة، بأسلوب المستشرف والمتأمل لحياة الأمة في مخاضاتها وتقلباتها، وفي فكرها وسلوكها، وفي روح إنسانها، وهو يعبُر هذه المنعطفات ممتلئاً بالإرادة والمناجزة، أو خاضعاً لهشاشة الإنسان وحيرته وتخبطاته. إن حبْك هذه العناصر ممزوجة بتقنيات فنية أصيلة هو ما يستجلب "الصيت الأدبي"، ويُبقي هذه الأعمال قيد الخلود والتداول. وحينها تبقى مسألة عدد الطبعات وتقليعة "الأكثر رواجاً" لا محل لهما من الاعتبار.

ورغم ذلك، فرواية "مولانا" تظل علامة على طبيعة العصر، وعلى ما شابه من ارتباك عقائدي ونفسي، وما يضجّ به من تصارع قيم وتوتر طائفي، ونمو إرهاب، وتصاعد كراهية، وتقلص في مساحة التسامح والتحمّل. وتظل ثيمة الرواية، وهي تسليط الضوء على صناعة النجم التلفزيوني المستجيب لمتطلبات الداعية العصري، الأكثر ألقاً وجاذبية. ولعل ما زاد من حضور شخصية "حاتم الشناوي" الروائية وقربها من الواقع ما أسبغ عليه المؤلف من حسّ فكاهي قارح، ممزوج بالسخرية اللاذعة وسرعة البديهة والاستجابة لمساحة الحرية المقننة، وغيرها من عدة الداعية العصري الذي يشتغل "برموت كنترول" السلطة، ويجني من وراء استسلامه وخضوعه لها ما يتسنى من مال وشهرة وبريق.

أما الأحداث التي كانت تتقدم بإيقاع سينمائي لافت، فقد نجحت في الجزء الأخير من الرواية في زيادة جرعة التشويق، حين يكتشف القارئ كيف يمكن لشاب بريء يدّعي الارتداد عن دينه واعتناق المسيحية، أن يكون خلية ذكية من خلايا الإرهاب، حين ينجح في تفجير كنيسة ونشر الدمار والقتل، أمام ذهول "حاتم الشناوي"، الذي كان أول المخدوعين به، وصدمة أهله اللصيقين بأسرة الحكم! وكأن تفجير الكنيسة في نهاية الرواية يأتي معادلاً موضوعياً لتفجير ألغام أخرى حول خفايا السلطة الحاكمة ووجوه الفساد واختلال المجتمع ووقوف الجميع على هاوية متغيرات قادمة.

back to top