سرداب

نشر في 16-10-2017
آخر تحديث 16-10-2017 | 00:10
 د. ابتهال عبدالعزيز الخطيب حكت لي أقرب صديقاتي عن رحلة غريبة لإنجاز معاملة حكومية، رحلة غريبة منطقياً وزمنياً إلا أنها ليست بغريبة على المواطن أو المقيم في هذا البلد الصغير، وما هي سوى سخرية القدر أن جعل غرابة هذه الرحلة حالة معتادة معيشة يومياً في دهاليز وزاراتنا ومبانينا الإدارية. صديقتي ذهبت لتقدم أوراق ابنتها التي أرقدها حملها المتعب في البيت لتُعرض على مجلس طبي. ينطلق سير الرحلة هذه من مقر عمل البنت إلى وزارة الصحة إلى مبنى اللجان الطبية لعمل ملف لها إلى مركز غنيمة الغانم في مستشفى الصباح لوضع موعد للنظر في حالتها.

بدت قصة الرحلة هذه كلها مضحكة وغير معقولة، فصديقتي تنقلت بين أربعة أماكن لإنجاز مهمة كانت يمكن لها كلها أن تتم في مكتب واحد فيه خدمة إنترنت. كل مكان ذهبت إليه كانت موظفاته يسرعن بتصريفها إلى مبنى آخر في منطقة أخرى، إلا أنها كانت تصر على أن ينظرن في أوراقها، وبعد تأفف كن يكتشفن أن المعاملة مكانها عندهن، فيقمن باللازم بين القضمة والأخرى من البسكويت أو السندويتشة وبين الرشفة والأخرى من الشاي أو اللاتيه، لتخرج صديقتي بحملها الثمين منتقلة إلى مكتب آخر لتقض فيه راحة موظفة أخرى تأكل وجبة أخرى أو ترتشف مشروب قهوة ذا اسم أجنبي مطول آخر. المهم، زارت صديقتي ما يزيد على الثلاثين مكتباً، لا، لا أبالغ، جلسنا وعددنا المكاتب التي دخلت وخرجت ثم عادت إليها، لتحصل على تأشيرة ثم توقيع ثم «شخطة» ثم ختم، فوجدنا أن العدد يفوق الثلاثين، فيما عدا مركز غنيمة الغانم الذي دخلته بسرعة، وأتممت فيه مهمة وضع الموعد دون تأخير.

معظم موظفي الجهات التي زارتها صديقتي كويتيون. هؤلاء الكويتيون يتقاذفون غيرهم من الكويتيين من مكتب لآخر ومن يد لأخرى ليس لسبب سوى اللامبالاة التي تنتج عادة بسبب التراخي والروتين والبيروقراطية وتدخل الوساطات وغياب التقدير للمجتهد الحقيقي. فإذا كان الكسول مساويا للمجتهد، فلمَ يُتعب هؤلاء الموظفون أنفسهم؟ ولمَ يتركون البسكويتة واللاتيه ليؤدوا وظيفة لن يفرق إتقانهم لها من عدمه؟ هم كويتيون على كل حال ولن يفصلهم من عملهم لو أنهم تربعوا فوق المكاتب ولعبوا «كوت بوستة» على مرأىً من رؤسائهم. لست هنا ألوم موظفي الصحة تحديداً، فهذا حالنا كلنا بلا استثناء، أزمة أخلاقية مزمنة أصابتنا جميعاً في مقار عملنا، حتى أصبح المجتهد المخلص «وايد مزودها»، متحولاً الى مصدر سخرية الآخرين ونقدهم بسبب التزامه الذي «يعقد الأمور».

إلا أن العجيب الذي رأته صديقتي، والذي لربما نراه باستمرار في كل جهات الدولة رغم عجائبيته هو ذاك العري الفاضح للواسطة في أروقة الإدارات. بعض الموظفين يسألونك مباشرة عن واسطتك، الكثير من المراجعين تنجز أعمالهم أمام عينيك بسبب علاقاتهم، تراهم وهم يتقدمونك، أوراقهم توقع وتتم على مرأى من الجميع وهم جلوس بجانبك. وضع مضحك مبكٍ، أشبه بمشهد شكسبيري ملحمي للفساد والفشل. سمعت من صديق ذات مرة أن إنجاز المعاملات في إحدى وزارات الدولة يتم بالمناداة، يخرج الموظف فيسأل إن كان بين الجموع ابن هذه الأسرة أو ولد هذه القبيلة، فإن كان، يُسحب الشخص من بين الناس وتنجز معاملته مباشرة فيما يقف الباقون صامتين، مهزومين أمام نظام ليس له حل، ليس له مثيل.

الفساد ليس مبلغا ماليا يحول إلى بنك، ليس يدا تمتد لجيب، ليس رشوة تسلم في ظلام الليل، كل هذه صور «حميدة» من الفساد. الفساد الخبيث يتمثل في الخراب الأخلاقي العميق وفي القبول العام بهذا الخراب على أنه نهج الأمة، على أنه الوضع الطبيعي. الفساد الحقيقي يتمثل في الممارسات الصغيرة اليومية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا حتى أصبحت تمر دون أن نشهق لمرورها، تتكرر دون أن نبتئس لحدوثها. الفساد الحقيقي هو ذاك اليومي الذي نمارسه جميعاً، واسطة هنا، عذر طبي مزور هناك، شهادة مدفوعة الثمن هنا، دعم عمالة مسروق هناك، يوميات فاسدة منمنمة، دفعتنا إليها حكوماتنا دفعاً بغياب مؤسساتها وقوانينها، وبسماحها بل تشجيعها طغيان المؤسسات الطائفية والقبلية، حتى أصبحنا لا نتحرك خطوة ولا نوقع ورقة إلا إذا «نعرف أحد» في الجهة المقصودة. الفساد أصبح منا وفينا، برضانا ومفروضا علينا، نلعنه ولا نستطيع أن نعيش دونه، علاقة غريبة مريضة لا تبدو لها نهاية.

اليوم، وحتى تنجز مصلحة، عليك بالمؤسسة الحكومية العميقة لا تلك الظاهرة، والتي لا تصلها إلا إذا كنت تعرف أحدا يعرف أحدا يعرف أحدا، وبما أن الديرة صغيرة وكلنا نعرف بعضنا، فلابد لك أن تعرف أحدا يعرف أحدا ليوصلك بأحد. يعني البلد كله نزل السرداب لينهي معاملاته، أما كانت السماء المنيرة في الطوابق العليا أفضل؟

back to top