ساقطة هذا الزمان

نشر في 16-09-2017
آخر تحديث 16-09-2017 | 00:00
No Image Caption
هذه الليلة هادئة، وسوادها الحالك أغرى الناس بالنوم مطمئنين. وفي الأجواء هزّت صرخات امرأة هدوء هذه الليلة، وكدّرت صفوها؛ لأن جسداً صغيراً رفض الخروج إلى فضاء الدنيا الواسعة، وظلّ هذا الجسد يقاوم ويقاوم ليبقى داخل عالمه الصغير الآمن. وفي نهاية هذه الليلة ومع شروق الشمس، خرج هذا الجسد العنيد وهو يصرخ مفزوعاً من رحمه المظلمة إلى عالم أوسع، وقد يكون هذا العالم أشدّ سواداً من ظلام الرحم التي كان يسبح فيها باطمئنان.

كبُر هذا الجسد الصغير في بيت صغير متواضع، في زاوية إحدى المدارس الحكومية للبنات، حتى التحق بأحد فصوله...

- أجيبـي يا شجن عن السؤال التالي: عرّفي الإخفاء؟

- الإخفاء: هو النطق بالحرف بصفة بين الإظهار والإدغام بدون تشديد، مع بقاء الغنّة في الحرف الأول، والمراد بالحرف الأول هو النون الساكنة أو التنوين.

- أحسنتِ. بارك الله فيك. ماشاء الله يا شجن، أنت ممتازة في تلاوة القرآن الكريم وحفظه وتجويده، وتحبّك المعلمات لأنك طالبة مؤدبة وخلوقة وممتازة.

- شكراً أستاذة فاطمة.

رنّ جرس المدرسة مُعلناً انتهاء الحصة. فسألت شجن زميلتها عن الحصة القادمة، لتجيبها صديقتها بأنها حصة اللغة العربية.

- السلام عليكن يا طالبات.

- وعليكِ السلام أستاذة سلوى.

- بما أنّنا متقدمات في المنهج الدراسي، لن أعطيكن درساً اليوم، لذلك سألهو معكن في إطار اللغة العربية لكي تستفدن أكثر.

قالت ريم: وكيف ذلك يا أستاذة سلوى؟

الأستاذة: سوف نتعرّف جميعاً إلى معنى اسم كل طالبة في هذا الفصل. وإن أردتن الاستفسار عن معاني أسماء أشخاص آخرين فلا بأس، وسنبدأ من عندك يا ريم، هل تعرفين ما معنى اسمك؟

قالت ريم: نعم يا أستاذة. (ريم) معناه الغزال الأبيض.

الأستاذة: ممتازة. وأنتِ يا هيفاء ما معنى اسمك؟

قالت هيفاء: لا أعرف.

- من منكنّ يا طالبات تعرف ما معنى (هيفاء)؟

لم يرد أحد على السؤال فقالت الأستاذة: لا أحد يعرف! إذن أنا سأجيب... هيفاء تعني الضامرة البطن، الدقيقة الخصر.

تحمّست شجن فجأة وسألت: وأنتِ يا أستاذة، ما معنى اسمك (سلوى)؟!

ضحكت الأستاذة ثم قالت: ما شاء الله عليك يا شجن، لم تتغيري أبداً، فما زلتِ ذكيةً وشقيةً كما عهدتك في السنة الماضية، عندما كنت في الصف الرابع الابتدائي... سلوى تعني كل ما يسلّيكِ وينسيكِ أحزانك.

قالت شجن: اسمك جميل يا أستاذة.

قالت الأستاذة: وأنت يا شجن، ما معنى اسمك؟

قالت شجن: لا أعرف.

قالت ريم: خالتي اسمها شجون يعني أحزان.

فقالت الأستاذة: أحسنتِ يا ريم، إذاً شجن مفرد شجون وأشجان يعني حزن.

قالت شجن: حزن! اسمي معناه حزن!

قالت ريم: أمي دائماً تقول إنّ لكل إنسان نصيباً من اسمه.

فقالت الأستاذة: نعم يا هيفاء. كثير من الناس يعتقدون هذا، يعني مثلاً فتاة اسمها أفراح أو فرح فتكون دائماً فرحة. وأخرى اسمها هيفاء فيكون فعلاً خصرها دقيق... لكن هذا ليس شرطاً، فإحدى قريباتي مثلاً اسمها لطيفة، لكن صدقوني هي ليست لطيفةً أبداً.

ضحكت الطالبات ثم قالت إحداهن: حتى شجن يا أستاذة، هي ليست حزينةً، بل دائماً بشوشة وضحوكة.

في نهاية اليوم الدراسي، كانت شجن تلعب في ساحة المدرسة مع صديقاتها. حتى ذهبت كل واحدة إلى بيتها، ولم يبقَ مع شجن سوى صديقتها مها...

قالت مها: لقد تأخّر أبـي اليوم، ويبدو أنّ والدك تأخّر كذلك يا شجن.

ضحكت شجن وقالت: لا، أنا لا أنتظر أبـي... أنسيتِ أني ابنة حارس المدرسة؟ وأنّ أمي هي فرَّاشة المدرسة؟

ضحكت مها وقالت: صحيح... لقد نسيت. إذاً أنتِ دائماً آخر طالبة تخرج من المدرسة؟

قالت شجن: صحيح حتى إن خرجت صديقاتي فلا بأس؛ لأنني أستمر في اللعب مع فتيات تعرَّفت عليهن من مستويات دراسية مختلفة. انظري... هذه وفاء في الصف الثالث الابتدائي، وهذه فاطمة في الصف الرابع.

فجأةً نادى الحارس اسم مها فخرجت، وأكملت شجن اللعب مع وفاء وفاطمة.

عادت شجن مع والدها إلى البيت، ودخلت كعادتها متحمسةً وسعيدةً إلى أمها، تحكي لها تفوقها في المدرسة ومدح المعلمات لها، لكن الأم تغرف طعام الغداء لزوجها غير مبالية بكلام ابنتها. وبينما هم يتناولون طعام الغداء، سألت شجن والدها: من الذي أسماني شجن؟!

فأجاب الأب: أمكِ.

نظرت شجن إلى أمها نظرة عتاب وقالت: أمي، لماذا أسميتني شجن؟ لماذا لم تسمّيني مثلاً فرح أو أفراح؟!

فردَّت الأم: لأنّ شجن هو الاسم الذي يناسبكِ.

سألت شجن أمها: أتعلمين يا أمي أنّ شجن يعني حُزن؟

فأجابت الأم: نعم أعلم، لذلك هذا الاسم يناسب حياتك ووضعك...

فصرخ الأب في وجه زوجته قائلاً: ماذا دهاكِ يا امرأة؟! اتقي الله واحمديه على نعمه... وعن أي حزن تتحدثين؟! ألا ترين ابنتكِ سعيدةً ومتفائلةً ومقبلةً على الحياة؟!

فردَّت الأم: ألا يكفي أنها فقيرة ووحيدة، وفارق السن بين والديها هو أربع وعشرون سنة؟!

فردَّ الأب: أما الإنجاب فهو بيد الله وحده، وأنا قنوعٌ وأحمد الله تعالى أن أنعم عليَّ بابنة. وأما الفقر، فأنتِ عشتِ حياةً أشدَّ فقراً وبؤساً؛ لذلك وافق والدكِ -رحمه الله- على أن أتزوجكِ وتخلّص منكِ وأنت في السادسة عشرة من عمركِ وكنت أنا في الأربعين.

ترك الأب غداءه وهو متأفّفٌ ومتذمّرٌ قائلاً: لا أعرف كيف أرتاح في بيتي، ولا أستطيع حتى إكمال غدائي، وفقدت شهيتي بسبب وجهكِ العبوس.

قامت الأم من مكانها لتخرج، فنادتها شجن وقالت: أمي... أمي.

ردّت الأم بنبرة غاضبة: ماذا تريدين؟

فقالت شجن: لماذا لم تنجبـي لي أخاً أو أختاً؟

التفتت الأم إلى شجن، ونظرت إليها وابتسمت ابتسامةً مريبةً ثم قالت: لا تستعجلي يا حبيبتي، فأنتِ ما زلتِ صغيرةً، وعندما تكبرين سأخبركِ يوماً ما لماذا.

قالت المعلمة: ومن سينادي الآن على أسماء الطالبات؟!

قالت أم شجن: لا تقلقي يا أُستاذة، سأُشغّل مكبّر الصوت لينادي كل شخص إسم الطالبة المقصودة.

دخلت أم شجن إلى المدرسة بعد أن قامت بتشغيل مكبّر الصوت، وظلّت جالسةً داخل المدرسة صامتةً، متوترة وخائفة، تفكر وتفكر. أما شجن فكانت تتحدث مع زميلاتها وتضحك. وشيئاً فشيئاً لم يبقَ في المدرسة سوى المعلمة المناوِبة وشجن وأمها.

قالت شجن: أمي... المعلمة ستغادر الآن، هيا أقفلي البوابة بالمفتاح، ولنذهب إلى المنزل... أمي... أمي...

قالت الأم: نعم.

سألت شجن أمها: لماذا وجهكِ أصفر؟ وبماذا تفكرين؟ ما الذي يشغل بالكِ إلى هذه الدرجة؟!

قالت الأم: ماذا تريدين؟!

قالت شجن: ألم تسمعي ماذا قلت لكِ؟! علينا أن نقفل البوابة ونذهب إلى المنزل.

خرجت شجن مع والدتها، لكنّ أمها كانت تمشي بخُطىً ثقيلة وبطيئة. حتى اقتربت شجن من باب المنزل لتجد الباب مفتوحاً، فاستغربت شجن ودخلت، وصرخت مفزوعةً بأعلى صوتها. هرعت الأم ودخلت لتجد ابنتها منهارةً من البكاء بجانب جثة والدها، والدماء تسيل بغزارة من رأسه الذي ضُرب بإبريق شاي مُلقى على الأرض، وعليه أثر اعوجاج من قوة الضرب.

مرّت ثلاثة أيام تلقّت فيها الأم وابنتها العزاء من الناس، وخضعتا للتحقيق من قِبل الشرطة، حتى قُيّدت القضية ضد مجهول.

ظلّت شجن في البيت لمدة أسبوع ولم تذهب إلى المدرسة، وساءت حالتها النفسية، فلم تكن تتصوّر في حياتها أن يموت والدها مقتولاً بتلك الطريقة، ولم تكن تتخيّل أن تراه بذلك المنظر البشع. وظلّت شجن تسأل نفسها دون أن تجد أي إجابة لأسئلتها: من الذي قتل أبـي؟ ولماذا قتله؟ هل لأبـي أعداء؟ أبـي رجل طيب مسالم، فلماذا يُقتل؟ ولأجل ماذا؟!

وضعت الأم طعام العشاء وجلست لتأكل، لكنّ شجن رفضت تناول الطعام وقالت لأمها: لا أرغب بالذهاب إلى المدرسةِ غداً، ولا حتى هذا الأسبوع كله أيضاً.

فالتفتت الأم إلى ابنتها وقالت: لا يهم، لا أكترث حتى إن أردتِ تركَ الدراسة تماماً.

فقالت شجن: ولماذا أترك الدراسة؟!

- لأنّنا بعد مدةٍ قصيرةٍ سنترك هذا البيت، وهذه المدرسة، وهذه المدينة أيضاً؛ لنعود إلى قريتنا ونستقرّ فيها.

- ولماذا نستقر في القرية؟!

- لأن وزارة التربية والتعليم ستطردنا من هذا البيت بالتأكيد؛ لتعيين حارس جديد للمدرسة، أم نسيتِ أنها مدرسة حكومية؟ وبالتأكيد سيسكن الحارس الجديد في هذا البيت.

- وماذا عن دراستي؟!

- فلتنسي دراستكِ فهي لن تنفعَك، وعلينا أنا وأنتِ أن نجد عملاً في القرية حتى نستطيع العيش.

- وماذا سأعمل هناك وأنا لم أُنهِ حتى دراستي المتوسطة؟!

- لا تقلقي، سأتدبّر الأمر.

وقفت شجن وهي غاضبة وغير متقبّلة لواقعها الجديد وقالت: لا أريد العمل، لا أريد الذهاب إلى القرية، أرجوكِ أمي فلنبقَ في المدينة... أرجوك.

سكتت الأم لوهلة ثم نظرت إلى شجن وقالت: لا بأس... سنبقى في المدينة مقابِل شرط واحد.

قالت شجن بلهفة: أنا موافقة على أي شرط، المهم أن نبقى في المدينة... ما هو شرطكِ يا أمي؟

- أن تُطيعيني طاعةً عمياء دونَ أي رفض أو نِقاش... فأنا أمكِ التي تُحبكِ وتعرف جيداً أين تكمن مصلحتك.

- لا تقلقي أمي، سأُطيعك دائماً ولن أرفُضَ لكِ طلباً.

(2)

عاشت شجن أسعد أيام طفولتها. فهي في المدرسة الطالبة المتفوقة التي حفظت عدة سور من القرآن الكريم، وهي في البيت الابنة الوحيدة المدلّلة لدى والدها الحنون. حتى بلغت شجن الخامسة عشرة من عمرها، وأصبح والدها رجلاً كبيراً على مشارف الستين.

كانت شجن في المدرسة حتى نهاية اليوم الدراسي، لكن هذا اليوم لم ينتهِ بشكل عادي كباقي الأيام، بل انتهى بواقعةٍ فظيعةٍ غير متوقعة.

انتهت الحصة الأخيرة وهرعت الطالبات إلى بوابة المدرسة؛ ليذهبن إلى بيوتهن. لكن الغريب أنّ البوابة لا تزال مغلقة. فتقدمت إحدى المعلمات الواقفات عند البوابة، وبدأت تطرق البوابة وتنادي عدة مرات بأعلى صوتها: يا أبا شجن... افتح البوابة... يا أبا شجن... افتح البوابة...، ولكن دون إجابة.

وفجأة فُتِحت البوابة بالمفتاح، ولكن من الذي فتحها؟! إنها أم شجن. فسألتها المعلمة: أين زوجكِ؟ لماذا لم يفتح البوابة؟! وأنتِ ماذا تفعلين خارج المدرسة؟!

فأجابت أم شجن بشكلٍ مضطرب: لقد مرض زوجي، وكنت معه... وقد أعطيته مسكناً للألم، وهو الآن نائم.

back to top