عقلانية كوريا الشمالية الفريدة

نشر في 13-03-2017
آخر تحديث 13-03-2017 | 00:10
 ستراتفور . عادت "لا عقلانية" كوريا الشمالية إلى البروز مجدداً، فقد أطلقت بيونغ يانغ أربعة صواريخ باليستية، سقط ثلاثة منها في البحر غرب اليابان على بعد 200 ميل بحري عن منطقة طوكيو الاقتصادية الخاصة، وكما هو متوقع أثارت تصرفات بيونغ يانغ "اللاعقلانية" صيحات الإدانة المعتادة، وأدت إلى انخفاض وجيز في سوق أسهم كوريا الجنوبية، كذلك دفعت الرئيس الكوري بالوكالة هوانغ كيو آن إلى التشديد مجدداً على ضرورة أن تسارع كوريا الجنوبية إلى نشر نظام "ثاد" للدفاع الصاروخي الأميركي، علماً أن هذه الخطوة ستضاعف استياء صديق كوريا الشمالية المقرب، الصين.

حتى لو التفتنا بشكل عابر إلى كوريا الشمالية، نلاحظ وجهة نظر عالمية صاغتها الجغرافيا والتاريخ. من الناحية التاريخية، وقعت كوريا الموحدة ضحيةً بين الصين واليابان، فشكلت سمكة صغيرة بين حوتين، إذا جاز التعبير، ولا تزال كوريا الشمالية اليوم واقعة بين حوتين: الولايات المتحدة والصين، ولكن هنا ينشأ سؤال مهم: هل ترغب كوريا الشمالية في ربط سلطتها وهويتها الوطنيتين بأحد جيرانها أم تريد أن تبقى مستقلة على الصعيدين السياسي والعقائدي؟

توازن دقيق

في حالة كوريا الشمالية تشكّل الانتخابات بالتأكيد مهزلة، إلا أن كيم يونغ أون لا يبقى في السلطة بسبب انتمائه الأسري فحسب، فهو يمثل الجيل الثالث من قيادة كيم في كوريا الشمالية، فضلاً عن أنه يفتقر إلى الاستعداد اللازم والمؤهلات الضرورية للاضطلاع بمهمة قيادة البلد، بما أن والده أخّر تدريب خلف له وتعيينه خشية أن تبدأ السلطة بالتشكّل حول ابنه بدل نفسه. لكن أسرة كيم لا تضم قادة ساميين يمسكون بزمام السلطة لأنه لا أحد يتجرأ على تحدي حقهم في القيادة. على العكس عليهم أن يواصلوا المناورة، ساعين لموازنة مصالح مجموعات الضغط ومراكز القوة المختلفة في كوريا الشمالية ومعادلتها.

تقوم مهمة قادة كيم الرئيسة على منع أي فصيل كبير أو مجموعة فصائل صغيرة من اكتساب نفوذ واسع، ويشمل تحقيق هذه المهمة تركيبة من المكافآت (الحصول على تمويل أجنبي أو فرص)، والعقوبات (تصل إلى حد الموت)، وتوزيع السلطة بين المجموعات المختلفة وحضها على التجسس على بعضها. من هذا المنطلق يعود التقلب إلى حد ما ببعض الفوائد على كيم، إلا أن التقلب المطلق والتام يقوّض هذا التوازن بسرعة، بما أنه يلغي أي وسيلة لضمان السلطة والنفوذ على الأمد الطويل، مما يؤدي إلى انقلاب النظام سريعاً على قائده.

من الأوجه اللافتة للنظر بشأن كوريا الشمالية أن لا عقلانيتها الظاهرة أتاحت لها رغم ذلك التمسك بمسار مستقل نسبياً خلال عهد هؤلاء القادة البارزين الثلاثة، حتى مع تبدل العالم من حولها، وهذا وحده كافٍ ليؤكد أن سلوك كوريا الشمالية يخفي وراءه عقلانية ما. يعود غالباً الافتراض أن تصرفات كوريا الشمالية (أو أي حكومة أخرى) تعكس لا عقلانية واضحة إلى وقوعنا في خطأ عكس صورتنا على الآخر: الاعتقاد أن الآخر يملك المعايير الثقافية، السياسية، الاقتصادية، والأخلاقية ذاتها مثلنا أو مثل ثقافتنا أو حكومتنا.

لا عقلانية متقلبة

تشمل القيم الأكثر أهمية لاعتبار الآخرين، وخصوصاً "الخصوم"، عقلانيين واقع أن اللاعقلانية بطبيعتها متقلبة، أما العقلانية فتقدّم إطاراً يمكننا ضمنه توقّع السلوك أو على الأقل فهم أنماط السلوك العامة، بالإضافة إلى ذلك يجب أن تتطابق العقلانية مع الواقع. تشكّل الحكومات كيانات كبيرة، وتُتخذ القرارات فيها على مستويات عدة وضمن أطر زمنية مختلفة، ونتيجة لذلك تصبح الخطوات المتناقضة ممكنة جداً أو حتى متكررة، كذلك تُرتكب الأخطاء، ويعرقل النقص في المعلومات، أو الوقت، أو الموارد عملية اتخاذ القرارات والخطوات الضرورية. على نحو مماثل تؤدي الصراعات المحتدمة على السلطة أو النفوذ إلى شتى أنواع الفوضى، لكن افتراض اللاعقلانية ما هو إلا تحليل سطحي يفتقر إلى الجهد والعمق.

إذاً لا تفتقر كوريا الشمالية إلى العقلانية، إلا أن فهم عقلانيتها الفريدة ليس بالمهمة السهلة.

* «روجر بايكر»

back to top