انقلاب فاشل على ديمقراطية مزعومة

نشر في 18-07-2016
آخر تحديث 18-07-2016 | 00:10
 فهد راشد المطيري عكست ردود الأفعال في الشارع العربي إزاء محاولة الانقلاب في تركيا مظهرا آخر من مظاهر اللاعقلانية في مجتمعاتنا العربية، ولعلّنا لا نجد وقتا أنسب من هذا لتأمّل ظاهرة "عقلية القطيع" التي تحدث عنها بعض الباحثين في بداية القرن العشرين، فمع بداية الأحداث المؤسفة من مساء يوم الجمعة الماضي، حتى قبل نهاية الصراع الدامي على السلطة في تركيا، بدأت الاصطفافات العاطفية والمتشنجة تطفو بقوة على السطح، وأطلّت الثنائيات المزيفة برأسها من جديد، فإما أن تكون مع الانقلاب على "الإخوان"، وإما أن تكون ضد الانقلاب على "الديمقراطية"، وعندما نجد أنفسنا أمام مثل هذه الثنائيات المزيفة، فإنّ الحقيقة غالبا ما تكون في مكان ما في المنتصف بين الطرفين.

فاجأت محاولة الانقلاب معظم الخبراء والمتابعين للشأن التركي، وهذا معناه أنّ الموقف العقلاني يتطلّب مزيدا من الوقت لتقصي الحقائق قبل اعتناق رأي محدد حول مجريات الأمور، ومع ذلك ذهب الحماس في البعض إلى مناصرة طرف ضدّ آخر، فخصوم "الإخوان" الذين طالما تشدقوا بالديمقراطية لم يترددوا في الوقوف مع انقلاب عسكري، في حين تداعى أنصار "الإخوان" على الانقلابيين دفاعاً عن ديمقراطية مزعومة، كما عكست الأحداث الأخيرة تمازجا بشعا بين الدين والسياسة، فمن جهة أخضع "الإردوغانيون الأتراك" المساجد إلى أجندتهم السياسية من خلال استخدام المآذن للدعوة إلى النفير العام، ومن جهة أخرى سارع "الإردوغانيون العرب" إلى ترديد عبارات "الدروشة" المعهودة والتي أوحت بأن الصراع يدور بين المسلمين والكفار، لا مجرد صراع بين أقطاب متنافرة على الحكم.

عندما نضيف المعطيات التاريخية حول حكم "إردوغان" إلى المعطيات الأولية حول الأحداث الأخيرة في تركيا، فإنّ من الإنصاف القول إننا أمام انقلاب فاشل على ديمقراطية مزعومة، فأمّا فشل الانقلاب فله أسباب من بينها عدم وجود تأييد شعبي، وعدم وجود غطاء سياسي، بالإضافة أيضا إلى الانقسام الواضح في صفوف الجيش التركي تجاه محاولة الانقلاب، وهو أمر يشي بحقيقة أنّ صورة هذا الجيش بوصفه حاميا للنظام العلماني تلاشت إلى حدّ كبير مع التغيرات الكبرى التي لحقت به في السنوات الأخيرة على يد الحزب الحاكم، وأمّا الديمقراطية المزعومة في تركيا فتراجعت إلى حدودها الدنيا في ظلّ صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، فأغلب صحف المعارضة تم إسكاتها بالقوة، وطالت الملاحقات القضائية عددا كبيرا من الأكاديميين الأتراك لمجرد توقيعهم على عريضة تناشد بوقف الحرب ضدّ الأكراد، كما اتسمت الخطابات الرئاسية بإحداث حالة من الاستقطاب الحاد في الشارع التركي، ومن المحتمل جدا أن الوضع سيزداد سوءا بعد الأحداث الأخيرة، وقد ظهرت فعلا بوادر على هذا الاحتمال منذ اليوم الأول من فشل الانقلاب من خلال الإجراءات السريعة التي تم اتخاذها بحق عدد كبير من أفراد السلطتين القضائية والعسكرية، ويبدو أنّ الوقت أصبح مناسبا لإجراء التعديلات الدستورية التي طالما نادى بها الرئيس، والتي من شأنها إخضاع الحياة السياسية برمتها إلى إرادة الزعيم الأوحد.

بالطبع، لا يهتمّ "الإردوغانيون العرب" على الإطلاق بتفاصيل التجاوزات المتلاحقة على النظام الديمقراطي في ظل حكم "العدالة والتنمية"، ولا تعنيهم في شيء تقارير منظمات حقوق الإنسان حول الأوضاع في تركيا، ولا يأبهون بقضايا الفساد والإثراء غير المشروع التي تحوم حول أركان السلطة في تركيا، بل إنهم لا يتورعون عن تبرير التقارب التركي مع روسيا وإسرائيل في الآونة الأخيرة، فالأمر المهم في نظرهم هو أنّ هناك رئيسا وصل إلى سدة الحكم عن طريق "الصندوق"، ويبدو أننا مطالبون باحترام الصندوق أكثر من احترامنا لعقولنا، وإلاّ ما معنى الإيمان بديمقراطية تمّ العبث بها على مدى سنوات طويلة بحيث أصبحت فكرة الإطاحة بالزعيم الأوحد من خلال "الصندوق" شبه مستحيلة؟!

back to top