مئوية «سايكس بيكو»

نشر في 14-05-2016
آخر تحديث 14-05-2016 | 00:00
 عبداللطيف مال الله اليوسف تجرع العرب ولمئة عام كؤوس الذل بسبب اتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا المبرمة في 16 مايو 1916، والتي تصادف بعد غد الاثنين مئويتها الأولى، ذلك حدث لأن العرب وفي مقدمتهم الشريف حسين بن علي وقعوا ضحية أخلاقهم العربية، فلا يحق لنا أن نعيّرهم بها، بل يجب أن نفخر، ومن جانب آخر لا نستغرب من بريطانيا وفرنسا ما اعتبرناه غدراً منهما لأنهم في عالم الغرب يعتبرون السياسة والأخلاق طرفي نقيض لا يجتمعان، فلا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، إنما تكون هذه وتلك حيث تكمن المصلحة، بل إن الغدر ونكث العهد في ديدنهم يعتبران ضربا من المهارة والذكاء، وبخاصة إذا ما أعقبتهما انتصارات سياسية وأمنية واقتصادية.

من هنا كان الفارق في تصرفات القادة الغربيين، فهم يُظهرون للعرب خلاف ما يضمرون، وهم سيمضون قدما في انتهاج هذا المسلك عند تعاملهم معنا، فخير لهم أن يتعاملوا مع شعوب تفي بوعودها لهم مهما تمادوا هم في خداعهم لها، إنها لعبة ما بين مخادع يعد وساذج يفرح، ومادامت قواعد اللعبة بهذه الكيفية فليكن معلوماً لدى العرب أنه إذا ما وعدهم الغرب وعداً يدغدغ أحلامهم بتحقيق آمالهم فإن ذلك معناه السراب ولا شيء غيره، فالغرب يجد صدقه مع نفسه في خداعه للآخرين.

كذب الغرب علينا إذاً وكال لنا الصفعات عبر عشرات السنين، وها نحن اليوم قد أدركنا ما نزل بنا من جراء هذه العلاقة غير المتوازنة، وبعد أن تبخرت أحلامنا بأن يعود علينا خنوعنا بفائدة تنعكس على أوطاننا وشعوبنا، ماذا نحن فاعلون؟

لقد كانت الأجيال العربية التي زامنت العقود الأولى بعد اتضاح خدعة "سايكس بيكو" أكثر وعيا ونضجا سياسيا مما نحن عليه، فكانت أكثر صرامة منا في تصديها لنتائجها، وكانت ردودها بالثورات ضد تطبيقها على أرض الوطن العربي حتى سلمتنا أوطانا حرة من قبضات الاحتلال، فماذا كانت تصرفاتنا بعد استلامنا مقاليد الأمور فيها؟ لقد أسأنا لأنفسنا وارتبكت خطواتنا درجات أعطت لهذا الغرب المخادع الفرصة لينقضّ علينا حينما تبدّى له تبخر حماسنا وخور عزيمتنا.

عندما وقع العدوان الثلاثي ضد مصر عام 1956 كان أحد الضباط السوريين (جول جمال) يقتحم بزورقه الحربي إحدى بوارج العدوان في مثال رائع على التفاني في التضامن العربي الذي حمل عبق العهد العربي الجميل الذي ساد حقبة النصف الأول من القرن العشرين، وقام الجيش السوري بقطع خطوط النفط القادمة من العراق في عمل تدخل على أثره الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور لوقف العدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي، ليس عن مبادئ وخلق تحلى بها الأميركيون إنما لأن هؤلاء كذبوا مع أنفسهم، فلم تتحقق الهزيمة لنظام عبدالناصر بل أدى إلى التهاب الشعور القومي العربي، ولأنهم تسببوا في أزمة نفط وأزمة ملاحة عبر ممر قناة السويس، ولأن الولايات المتحدة (ولعله السبب الأهم) رغبت في إقصاء القوتين الغربيتين عن مسارح السياسة في الشرق الأوسط لتحل هي محلهما، وعندما أحدق الخطر بسورية عام 1967 إثر تردد الأنباء عن قرب تعرضها لعدوان إسرائيلي تجلت صورة أخرى من صور التلاحم العربي، بإغلاق مصر لمضيق تيران في وجه الملاحة الإسرائيلية واحتشاد القوات العربية على أرض مصر.

ولكن عندما انصرمت عهود الثوار الزعماء المتخلقين بالخلال العربية والصادقين في وعودهم، وساد عهد الرؤساء السياسيين الذين يرون أن النجاح السياسي يعني الكذب والخداع حدثت الفرقة وحل الانقسام في الصف العربي ابتداء من خدعة ممرات سيناء في حرب 1973 وانتهاءً بمفاوضات كامب ديفيد، فقد انفردت مصر من دون سورية بهذه المفاوضات لتفوز بسيناء فوزاً برائحة الخسارة، وعادت سيناء حرة وأسيرة حسب ما تقرر إسرائيل، وبقيت سورية منفردة تفاوض خصماً عاضدته كل القوى الغربية، في حين تخلت كل القوى العربية عن سورية بل حاربتها.

وفي محاولة منها لستر عورتها اتهمت سورية بالانحياز لإيران وأخفينا عجزنا عن مجابهة إيران حتى اكتشفنا مـتأخرين أن ما تحمله إيران من عوامل التفكك في بنيتها أضعاف ما لدينا، ومع ذلك هربنا من مسؤوليتنا في قتل الذئب وقمنا بتمزيق ضحيته.

شاهدت أحد شبابنا الكويتيين يرد على متحدث إيراني استضافتهما قناة "العربي" عندما قال الإيراني إن اللواء 65 من الجيش الإيراني شارك في معارك الجبهة السورية بقصد التدرب القتالي بالسلاح الحي، ولاكتساب المهارات القتالية، فوبخه الكويتي بأن من العار أن يقتل مسلم مسلما لمجرد التدريب، إلا أن الإيراني لم يتحدث من فراغ، فعلى الجبهة الليبية وقبل الأحداث السورية بسنوات قام العربي المسلم بقتل العربي المسلم، وبدافع يفطر القلب حزنا عندما عزا مسؤول عربي أن عملية المشاركة في القتال إنما كانت اكتسابا للخبرة القتالية.

في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي أنشأنا جامعة الدول العربية لترأب صدع الأمة العربية، ولتعنى بشؤون شعوبها، وإذا بهذه المنظمة تضعف مع الزمن لضعف أمنائها العامين، وبسبب ما أصبح عرفا أن يكون الأمين العام من رعايا دولة المقر، لقد أبينا إلا أن نجامل على حساب مصير أوطاننا وتقدم شعوبنا حتى أصبح أقصى اهتمامات الجامعة توفير الوظائف لرعايا دولة المقر، ليس هذا فحسب بل إنها عجزت عن تقديم المبررات لمجلس وزراء الجامعة لعدم فصل أحد أهم أعضائها المؤسسين السبعة من عضويتها، فتم تسليم مقعد الدولة السورية فيها إلى ممثل معارضة الحكومة السورية، ولأنها قطعت حبال الوصل مع الحكومة السورية فإنها عدمت الوسيلة للاتصال بها عندما أعوزتها الحاجة إلى التماس مخرج لمحاصري مضايا وسكان حلب الذين ليس لهم ذنب في هذا التدمير الواقع على مدينتهم.

لقد كان فصل سورية من منظمة الجامعة العربية قرارا انفعاليا جانبته الحكمة والتروي، فلما انتقل الأمر إلى منظمة الأمم المتحدة رفضت فصل العضو السوري منها لتلقن الجامعة العربية درساً في اتباع الإجراءات المرعية بعيداً عن الانفعالات والعواطف.

 دليل آخر على فشل الجامعة العربية في الاضطلاع بواجباتها، فقد طرق الأحوازيون مراراً أبوابها الموصدة، فلم تفتح لهم بسبب رفض أحد الأعضاء فيها بحث قضية الأحواز العربية في محافلها لأن هذا العضو، كما يقال كان ولا يزال يغرد خارج السرب العربي. فهل نحن سرب منتظم التغريد حتى لا يغادرنا أحد؟

إننا ولمئة عام منذ سايكس بيكو نعيش الفوضى، هذا يقدح بهذا وهذا يكيد لذاك، فقدنا فيها هويتنا وماتت في نفوسنا الغيرة على الأرض والعرض، فأين أنت يا مظفر النواب؟ هلمّ إلينا يا سيدي إننا لم نستوف بعد ما نستحق من شتائمك.

back to top