«الهبل» صنعة

نشر في 21-01-2014
آخر تحديث 21-01-2014 | 13:01
 باسم يوسف هل تتعجب حين يصدق من حولك قصة "هبلة" أو إشاعة مغرضة أو نظرية مؤامرة لا يمكن أن يصدقها واحد لديه أدنى مستوى من التعليم؟ الموضوع مش صعب.

تعالوا نشوف

في يناير ١٩٩٧، يعني من ١٦ سنة، لاحظت هرجاً ومرجاً، وناس بتشاور وبتتكلم، إيه ده معقول؟ إنه المذيع اللامع مفيد فوزي يمشي داخل النادي. كان المذيع اللامع مصحوباً بكاميرا فيديو، وكان ممسكاً هو بميكروفونه ويجري حواراته مع مرتادي النادي.

معقول؟ هل يمكن أن تكون هذه هي فرصتي لأظهر على شاشة التليفزيون؟ هل يمكن أن يقوم المذيع اللامع مفيد فوزي بسؤالي أمام الكاميرا فأظهر على أكثر البرامج شعبية في هذا الوقت؟

"حديث المدينة" كان هذا هو اسم البرنامج، ولم أكن أعرف أحداً إلا كان يشاهده.

الآن كل ما يجب عمله أن أكون هادئاً، وأفكر في طريقة ما لأظهر في البرنامج بدون أن أكون لحوحاً فينفر مني المذيع اللامع.

ها هو قادم، سيمر بجانبي في خلال لحظات. (قول أي حاجة، قول أي حاجة).

استجمعت شجاعتي وقلت الجملة التي ربما كانت وقتها فعلاً حديث المدينة.

"انتوا بتعملوا موضوع عن عبدة الشيطان وإلا إيه؟".

توقف المذيع اللامع، التفت ناحيتي.

"تحب تتكلم على الموضوع".

"ياريت"

(الله!!! معقول؟ شكلي حطلع على التليفزيون الليلة).

دارت الكاميرا وسألني المذيع اللامع سؤالاً واحداً: "عبدة الشيطان، ماذا تقول؟".

تظاهرت بالهدوء والثبات واحتفظت بابتسامتي عشان أطلع حلو

و"مكسر الدنيا" وجاوبت هكذا:

"أنا شايف إن موضوع عبادة الشيطان ده مبالغ فيه، يعني لو هم شباب مدرسة أو جامعة بيشربوا مخدرات مثلا، ده غلط، دي خطيئة، بس عبادة الشيطان دي خطيئة تانية خالص، وما ينفعش نقبض على ناس ونشهر بيهم عشان مجرد لابسين أسود".

انتهت إجابتي وانتظرت السؤال التالي، ولكن لم يكن هناك سؤال تال، هزّ المذيع اللامع رأسه وشكرني وانصرف.

مش مشكلة، إيه يعني سؤال واحد، المهم سأكون على التليفزيون الليلة.

رجعت البيت وأخبرت أهلي واتصلت بأقاربي وأصدقائي، أمي تسلمت التليفون وكلمت العيلة في المحلة والمنصورة وإسكندرية. "باسم هيظهر النهاردة في حديث المدينة".

جاء ميعاد البرنامج، السندوتشات والحاجة الساقعة جاهزة وأسرتي كلها مجتمعة أمام التليفزيون.

يبدأ المذيع اللامع مقدمته الملتهبة عمن انتهكوا حرمة الدين بعبادتهم للشيطان، ويتساءل كيف سيواجه المجتمع هذا الخطر الأسود؟، وكيف سنحمي أولادنا منه؟.

حوارات كثيرة مع أهل المنطقة التي يسكن فيها أحد المقبوض عليهم.

"لاحظت عليه حاجة؟".

"آه والله يا بيه كان بيلبس أسود كده وبيشتري مزيكا غربي وشكله مش طبيعي".

كان هذا كافياً لأهل المنطقة لتصنيفه بأنه من عبدة الشيطان.

ولكن ماذا نتوقع من الناس وهم يقرأون على الصفحة الأولى للأهرام والأخبار تفاصيل القبض على هؤلاء، وتنشر الصحف العريقة صوراً للأدلة المحرزة في القضية؟ فنكتشف أن الأدلة الدامغة هي "تي شيرتات" سوداء اللون عليها صورة مايكل جاكسون، وكاب بيسبول أسود لفرقة رياضية أميركية، وشرايط كاسيت لفرق ميتاليكا ونيرفانا وبلاك ساباث.

وسائل الإعلام كلها لم يكن لها سيرة إلا هؤلاء الشباب الذين كانوا يقومون بعبادة الشيطان وكانوا يقدمون الضحايا والقرابين، وللتأكيد على ذلك شرائط فيديو لحفلات الروك التي كانوا يقومون بها بهز رأسهم بعنف (head banging).

كانت هذه هي الأدلة، وكان هذا هو المزاج العام، الشعب مصدق ان فيه عبادة شيطان في مصر؟ لماذا؟ لأن التليفزيون والصحف تقول له هذا.

عيال صغيرة ومنهم من ينتمون إلى طبقة مستريحة (نقطة مهمة تستخدم لتأليب الرأي العام) يستمعون إلى أغان غربية (أنت قلت غربية؟ يبقى التهمة أكيد لبساهم) وجدوا أنفسهم في وسط قضية أقل ما يقال عنها إنها قضية "هبلة" وغبية، ولكنها كانت كافية لتقضي على مستقبلهم وربما تحطم حياة عائلاتهم.

أتذكر كم الساعات التي وفرها التليفزيون بقناتيه الأولى والثانية لمناقشة القضية، أتذكر كم الصفحات التي كتبت عن هذا الموضوع والمانشيتات الساخنة من عينة "الجنس والمخدرات في أوكار عبادة الشيطان" الأهرام والأخبار وطبعاً المجلة الرائدة روزاليوسف التي قادت الهجوم الشرس على هؤلاء الشباب، لذلك لا تتعجب إن وجدت نفس الأسماء الذين قادوا هذا الهجوم هم نفس الأسماء الذين يملأون أذنيك اليوم بنظريات المؤامرة.

في وسط هذا الجو المشحون عملت أنا فيها "سبع رجالة في بعض" وقررت أن أقول رأياً مختلفاً على شاشة التليفزيون المصري.

زاد تحمسي وأنا أشاهد الحلقة، فالحلقة من أولها لآخرها شتيمة وتقريع ونصيحة لهولاء الشباب البائسين، الكل ينتقدهم ويدين ما حدث.

"هذا ضد قيمنا وديننا".

ماحدش يقدر يعترض، لكن هل هذا حدث فعلا لتشوه هؤلاء وتقضي عليهم؟

مرت نصف ساعة ثم ساعة، وكام فاصل إعلاني.

خالي وخالتي يتصلون من المحلة

"إيه يا عم انت فين؟ مش هتطلع وإلا إيه. أنت شكلك بتضحك علينا يا عم؟".

كنت مكسوف وفي "نص هدومي"

"والله أنا طلعت معاه، اصبروا شوية".

مرت اللقاءات في الشارع، في الجامعة الأميركية ولم أظهر، واستمر البرنامج ولم أظهر.

كان شكلي وحش أمام عائلتي الذين تسمروا أمام شاشات التليفزيون في كل مكان.

ها هي مشاهد وحوارات النادي الذي أجرى فيه الحوار معي، يبدو أنني سأظهر قريباً.

لم يحدث.

ولكنني لم أشغل نفسي بذلك (يعني مش قوي، بصراحة كنت منفسن حبتين)، وخصوصاً حين قابلت بعض الأصدقاء من النادي وممن أعرفهم في الجامعة الأميركية. وجدت أنني لم أكن أنا الوحيد الذي رفض هذه الاتهامات "العبيطة"، ووجدت أيضاً أنني لست الوحيد الذي أزيل بعملية مونتاج دقيقة من الحلقة.

يبدو أنه إن كان لديك رأي تحاول أن تظهر فيه بعض العقلانية بعيداً عن هيستريا الإعلام فنصيبك سيكون سؤالاً واحداً فقط وهزة دماغ.

حين أفكر في هذا الموضوع الآن لا أظن أن إذاعة حواري أو إذاعة حوار من اتفق معي كان ليحدث أي فرق، فالحكم كان قد صدر ونجحت أجهزة الدولة عن طريق الإعلام في توجيه الرأي العام وإقناعه أن هناك فعلا من يعبد الشيطان في مصر.

فقد جاء هذا الموضوع ليضيف نكهة النصر على عيد الشرطة الذي تصادف أن يأتي قبل رمضان، فيقوم المذيع اللامع باستغلال هذه الفرصة الذهبية لإجراء حوار رائع مع عبدالحليم موسى وزير الداخلية وقتها، وبعد انتصاره المدوي على شوية مراهقين شهدنا سقوط الوزير المدوي بعدها بشهور في مذبحة الدير البحري.

لا يهم أن مجموعة من هؤلاء الشباب قد تركوا مصر إلى غير رجعة ولا يحملون إلا الغل والغضب لما كانوا يعتبرونه وطناً، لا يهم تحطيم حياة وسمعة هؤلاء الشباب وعائلاتهم، المهم أن تقتات وسائل الإعلان على لحومهم عن طريق إذاعة التقارير المضروبة التي تمليها الجهات السيادية ثم إطعام المشاهدين بهراء ليس له أي علاقة بالحقيقة.

لا يهم خروج المحققين والقضاة الذين تولوا هذه القضية بعدها بشهور ليقولوا إنه لم يكن هناك قضية، لا يهم إن صرح المستشارون والمحامون والقضاة بالفم المليان أنه ليس هناك شيء اسمه عبادة شيطان في مصر، وأنها قضية مضروبة، لم نجد هذا في الإعلام، لأن المذيع اللامع ومجلة روزاليوسف والأهرام والأخبار لم يبالوا ببذل عشر الجهد الذي بذلوه لإظهار هذه الحقيقة، لأنهم تعبوا جداً في تصدير حقيقة أخرى للناس.

حدث ذلك كله والدولة لا تسيطر إلا على قناتين (بدون حساب القنوات الإقليمية)، وبحفنة من الصحف الحكومية، تخيل الآن ماذا تستطيع الجهات السيادية تحقيقه، وهناك الفضائيات التي لا تقول "لا" ومعها صحفها "المستقلة" المستعدة لتصدير أي "حقيقة" تريدها الدولة.

موضوع عبادة الشيطان يبدو موضوعاً قديماً، ولكنه موضوع متجدد وموجود ودليل على أن غسيل الدماغ في وطننا العربي أسهل بكثير مما تظن.

الدولة التي استطاعت أن تقنع شعباً بالكامل بقضية تافهة وغير حقيقية مثل قضية عبدة الشيطان مازالت تواصل نجاحاتها في إقناعنا بالمؤامرات الماسونية والتخطيطات العالمية، وتستطيع أن تقنعك أن عوالم المجرة كلها تتآمر عليك.

ليس من الصعب على الإطلاق أن أقنعك أن شخصاً ما عميل أو جاسوس أو يخطط لتدمير وتقسيم مصر.

الوجوه هي نفس الوجوه، والصحافيون والخبراء لم يتغيروا، والمدرسة واحدة، وعبيد المأمور على أهبة الاستعداد لأن المأمور لم يتغير.

ربما تلبس أنت شخصياً قضية تعتبرها مضحكة من فرض "هبلها" ولكن لا تقلق، مع الجرعة المضبوطة من البرامج والمقالات ربما تصدق أنت شخصياً أنك مذنب.

كلها مسألة وقت.

ينشر باتفاق خاص مع «الشروق» المصرية

back to top