فلنزرع الأخلاق

نشر في 09-11-2013
آخر تحديث 09-11-2013 | 00:01
 محمد الشملان في يومٍ من الأيام كنت أمشي على ضفاف نهر السين اللطيف الممتد الذي ينام بالقرب من برج إيفل في باريس العتيقة. وقفتُ على جانب النهر فرأيتُ السفن الكبيرة، فقررت ركوب إحداها، قطعت تذكرة الركوب، وانتظرت المركب حتى يهبط في المرسى.

تأملت المكان، فأبرقت عيني وخفق قلبي حينما رأيت محل المثلجات الجميل الذي كان ينتظرني لأُبرِّد عن نفسي بأكل ما تجود به خِزانته من مُثلجاتٍ لذيذة. سلَّمتُ على البائع، وأخذت طلبي مستمتعاً به حتى قال لي البائع كلمةً غيرت مزاجي وتفكيري.

تساءَل: «هل أنت تَدين بديانة؟» قلت مستغرباً: «نعم، أنا مسلم»، فرد علي ببرود: «أنا لا أُدين بأي دين، أنا مُلحد».

سمِعَ صديقي هذا الكلام، فقفز صارخاً: «إنك على خطرٍ عظيم! ستدخل النار بإلحادك هذا! لن تنجو من العذاب».

شَعَر البائع بالارتباك، ولكن مازال مُصراً على رأيه: أننا جئنا من العدم، وسنعود إليه، وكل شيء مصادفة.

دار في خُلدي أن أتكلّم معه بحُسن خلق ولباقة، فقلتُ له: «أنا أظن أنك رجل محترم، ويحتوي قلبك على حُب الخير»، فهدأ وسَكَنَتْ جوارحه وبدأ بالتركيز معي، فأكملتُ حديثي: «ما ديانة والديك؟» فأجاب: «الكاثوليكية»، قلتُ له: «وهل تعتقد أنهما على ديانةٍ خطأ أيها الرجل الكريم»، ففكَّر قليلاً، ثم أردفته بقنبلة: «ماذا لو تأمَّلنا أنا وأنت، هذا النهر الصافي الجميل من أمامنا، وهذه الشمس الساطعة في كبد السماء، ودوران الأرض بدقة متناهية، ووقوف السماء بلا عمد، وتعاقب الليل والنهار، وحَمْل المرأة تسعة أشهر بولدها، يكبر في بطنها بسرعة نفاثة، ويخرج طفلاً ثم شاباً ثم يبلغ الكِبَر ويموت. كل ما تراه أمامك من نظام وخَلْق، أتُرى أنه مصادفة؟ أهو جاء هكذا وهكذا سيذهب؟ المقتول ظُلماً سيكون تراباً مثل الظالم؟ لا جزاء!؟ الفاحش كالصالح التقي... لا جزاء!؟».

كان يتفكَّر في الكلمات، حتى ابتسمتُ له قبل الذهاب إلى رحلة السفينة: «من المُحزن المبكي أن تضيع أيام الإنسان وهو غير مُدرِكْ للعاقبة والنهاية، وهو يحسب أنه يُحسن صُنعاً!».

ذهبتُ عنه، واستمعت برحلتي النهرية القصيرة، فلما رجعت إلى الضفّة، جاء إلي ذلك الرجل بائع المُثلجات مسرعاً، وقال: قِف للحظاتٍ يا محمد، ثم ذهَب فعاد جالباً لي صورة التقطت لي حين ركوبي السفينة. الصورة لها سعر، لكنه قدمها لي مجانية كهدية.

قال لي: «أشكرك على حُسن خلقك، وسأُفكِّر بكلامك وأبحث عن الإسلام، وأرجو أن تقبل مني هذه الهدية».

لم أكن أتوقع أنه سيتأثر إلى هذا الحد، تركته وأنا أراه بنصف عين وهو يُشاهدني بعيونه وجوارحه.

إن وقع الكلمة الطيبة عظيم على القلوب، فهي كالهدوء فجراً، وكجمال الأنهار عند الغروب، فيا ليتنا نستوعب نحن المسلمين قوله تعالى: «وقولوا للناس حُسناً»، أو حتى قول الحبيب صلى الله عليه وسلم: «وخالق الناس بخلقٍ حسن»، فنسعى جاهدين لزرع الأخلاق الحسنة في قلوبنا.

back to top