نهاية الأبوية العربية

نشر في 04-02-2014
آخر تحديث 04-02-2014 | 00:01
نتج الربيع العربي عن تحوّلات بنيوية طويلة الأمد أثرت في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فقد ساهم نظام الدولة-الأمة، الذي نشأ في المنطقة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، في ترسيخ دول أبوية مركزية، إلا أن هذا النظام فشل في تأمين الضوابط والتوازنات الاجتماعية.
 جي ام اف يُعتبر تعبير "الربيع العربي" منذ صياغته غير دقيق خطابيّاً، واليوم يبدو المشككون المتشائمون بشأن موجة التظاهرات الشعبية التي اجتاحت الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مبرَّرين في تفكيرهم هذا، فتتجه مصر نحو إعادة إرساء نظام حكم مستبد قاسٍ، في حين تغرق ليبيا في الفوضى، وتحول اليمن إلى دولة فاشلة تمزقها الميول الانفصالية والتمرد، كذلك تعاني سورية إخفاق الالتزام بمسؤولية الحماية، وتحوّلت البحرين إلى موضع لا مبالاة عالمية، أما العراق فعاد ليتخبط في حرب بين الإخوة في الوطن الواحد، وتونس وحدها حققت بعض التقدم مع قبول الأحزاب العلمانية والإسلامية الرئيسة بمسودة الدستور الجديد وبدء الحوار الوطني للحفاظ على الشرعية الهشة لنظام ما بعد الثورة، ورغم ذلك من الخطأ أن تعتبر الولايات المتحدة وأوروبا أن الربيع العربي قد أخفق.

نتج الربيع العربي عن تحوّلات بنيوية طويلة الأمد أثرت في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فقد ساهم نظام الدولة-الأمة، الذي نشأ في المنطقة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، في ترسيخ دول أبوية مركزية، إلا أن هذا النظام فشل في تأمين الضوابط والتوازنات الاجتماعية، وبحلول عام 2011 ما عاد بإمكان الحكومات المستبدة المختلفة ضبط مطالب سكان المنطقة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية الشعبية؛ لذلك كانت شرارة الانتفاضة التونسية، التي بدأت في ديسمبر عام 2010، كافية لإشعال المنطقة.

من الممكن بسهولة تحديد ما آلت إليه بعد ذلك لحظة الحماسة الوجيزة تلك، فلكي تضمن المؤسسات التي أنشأتها الأنظمة المستبدة استمرارها أعربت عن قوة وقدرة عالية على التكيّف ووحشية كبيرة، وفي المقابل كانت الحركات الثورية بسبب طابعها غير الناضج وغير المتجانس عرضة للتطرف الانتهازي.

 ونتيجة لذلك تحوّل استمرار الوضع الراهن للحدود والحكومات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى مسألة خطيرة: من سورية والعراق (حيث تشكّل الحكومة المركزية مجرد مفهوم نظري) إلى اليمن (حيث عبّرت القوى الانفصالية عن نواياها بوضوح) وليبيا (حيث لا تزال الدولة في غرفة الإنعاش) ومصر (حيث باتت سيناء خارج السيطرة)، ولكن يمكن الجزم في الوقت عينه أنه ما من عودة دائمة إلى نموذج الحكم الأبوي الذي أتاح للحكام الدكتاتوريين الازدهار ودفع بالمجتمع الدولي إلى تقبّلهم.

من الواضح أن الجيش يأمل إعادة إنشاء دولة أبوية في مصر بدعم من المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، وقد يؤدي انتخاب المشير عبدالفتاح السيسي رئيساً إلى وهم مماثل إلا أنه سيكون مؤقتا، ولن تؤدي تطورات مماثلة إلا إلى إرجاء المحتّم، ولا شك أن نشر الأفكار وتبنيها بالغ الأهمية، لكن ميزانية حكومات المنطقة غير المبررة مهمة أيضاً. صحيح أن العقد الاجتماعي الضمني (إسماع عدد السكان المتزايد وعوداً كاذبة حول التعليم، والبطالة، والتقاعد، مقابل قبولها بأبوية الدولة) لا يزال على الأرجح خياراً ممكناً، لكنه سيبقى كذلك فترة محدودة وفي دول الخليج الثرية فحسب.

 قد ينجح الكرم السعودي الذي يحفّزه تبدّل الاعتبارات الجيو-سياسية في حماية مصر في الوقت الراهن من تأثيرات تراجع المساعدة الدولية والدعم الذي سيترافق مع المشهد الاقتصادي العالمي المتبدل، فالمواطنون ليسوا وحدهم مضطرين إلى تدبير شؤونهم بأنفسهم، بل ينطبق هذا الواقع أيضاً على الحكومات، فقد اضطرت الدول التي يمارس فيها عدد السكان المتنامي بسرعة ضغطاً كبيراً على الموارد العامة، إلى خفض وعودها وتعزيز عمليات القمع، مما يفاقم بدوره عدم الاستقرار في المنطقة.

خلف تمكين الربيع العربي وتركيزه الجديد على سيادة المواطن يكمن إدراك أعمق: إدراك أن الدولة ما عادت قادرة على الاضطلاع بمسؤولياتها، إذ لم نفهم بعد كامل تداعيات هذا الواقع المؤلم، ففي الثقافات الميالة إلى اعتمادٍ على الدولة يصل إلى حدّ الخضوع، لا يحدث الانتقال نحو مقدار كبير من الاستقلال آليّاً، ولا يشكّل رفع صور الحكام المستبدين المخلوعين بين المزارعين في الريف التونسي ورجال القبائل الليبية وسكان الريف الفقير في القاهرة تعبيراً عن حب أو حنين، بل رغبة في العودة إلى الوعود المستحيلة للدولة الأبوية.

أدرك المجتمع عبر الأطلسي منذ بداية الربيع العربي أنه ساهم عن غير عمد في إطالة عمر نظام حكم مفلس، ولكن يجب ألا يميل إلى التفكير، في ظل غياب البدائل المباشرة، في تبرير عودة الحكم المستبد، ففي تونس، تُتخذ الخطوات المتواضعة نحو عقد اجتماعي جديد يضمن سيادة المواطن ومسؤوليته، وتشكّل المساهمة في تشجيع خطوات مماثلة في مختلف أنحاء المنطقة المسار الضروري للمضي قدماً؛ علماً أن هذا المسار أكثر انسجاماً مع القيم والمصالح الغربية.

* Hassan Mneimneh

back to top