الغرب المنهك الحذر يترك سورية بين أيدي السفاحين

نشر في 04-05-2013
آخر تحديث 04-05-2013 | 00:01
مع انهيار سورية والدول المجاورات وتحولها إلى دول غير فاعلة، لا يصعب علينا تخيل تصفية حساب أخيرة بين الشيعة والسنّة تجعلنا نحن إلى الثوابت الواضحة خلال الحروب الإسرائيلية-الفلسطينية، وإن كان العراق في أسوأ حالاته مغناطيساً جذب كل الكره في المنطقة، فلا شك أن سورية ثقب أسود.
 ديلي تلغراف من سوء حظ سورية أن معاناتها على أيدي بشار الأسد وأعوانه المجرمين تأتي بعد محن الغرب في العراق وأفغانستان وعقب الأزمة المالية التي جعلت المحاسبين يتدخلون في السياسات الخارجية. نتيجة لذلك، صرنا منهكين ومفلسين، ما حد من رغبتنا في خوض مغامرة عسكرية أخرى.

يبدو عجزنا أمام الفظائع اليومية في دمشق وحمص ودرعا وحلب وعدد من الأماكن الأخرى، التي تمزقها الحرب الأهلية بوحشية، واضحاً للعالم بأسره، فلم تتعافَ المثالية التي أحاطت مبدأ التدخل لأغراض إنسانية، التي صاغها توني بلير في شيكاغو قبل أكثر من عقد، مما واجهته من ذل في البصرة وهلمند. نتيجة لذلك، صرنا نكتفي اليوم بالتأسف والتحسر ونحن نقف على الهامش، عاجزين حتى عن معالجة عواقب هذه الحرب الإنسانية. حتى الصور التي يُقال إنها تُظهر ضحايا اعتداء كيماوي نفذته قوى النظام ضد مدنيين لم تؤد إلا إلى التحسر والأسى. أعلن باراك أوباما السنة الماضية أن استخدام هذه الأسلحة خط أحمر، إذا اجتازه النظام، فستتبدل المعادلة. إلا أنها لم تتغير لغاية اليوم.

في أوروبا، تحرك الكلمة "غاز" الذاكرة الجماعية، فنتجمد عن ذكرها وتثير فينا الاشمئزاز بطريقة لا واعية، عندما كنت صغيراً، كان عم والدتي قريبي المفضل. اعتاد أن يحتفظ بمسدس في درج صغير قرب سريره، فضلاً عن حربة ألمانية استخدمها لسنوات في تحويل الأرانب في القفص في أسفل الحديقة إلى غداء يوم الأحد (أحتفظ بها اليوم على طاولة مكتبي مع عدد من ميدالياته). لكن الذكرى الأخرى، التي حملها معه من مدينة فيردان ولم يستطع التخلص منها، كانت تأثيرات الغاز.

كان يبقي جهاز التنفس وأدويته قربه، بينما كان يخبرنا عن الخوف ومشاهد الاختناق والأفواه المليئة بالرغوة المرعبة، وما انفك يردد: "لا يستطيع أحد أن يفهم". بعد مرور قرن تقريباً على هذه المآسي، لا تزال أوروبا تتفاعل بطريقة استثنائية مع عمليات قتل مريعة لا تختلف عن إلقاء براميل من المواد المتفجرة من مروحيات أو نحر أعناق الأولاد.

في الصراع السوري، باتت هذه الوحشية شائعة. تلقيت أخيراً رسالة إلكترونية من مترجم فوري سوري شاب عملت معه في لبنان في مطلع هذه السنة. أخبرني في الرسالة عن حسن حظه لأنه نجا من قبضة استخبارات الأسد من دون أن يتعرض للتعذيب. كتب: "أخذوا كل أمتعتي، ومن ثم ربطوا يدي وراء ظهري وعصبوا عيني. أرغموني على مواجهة الجدار مدة طويلة (طوال أربع أو خمس ساعات تقريباً). ثم بدأوا يعذبون شخصا ما خلفي، راحوا يجلدونه، يضربونه، يصيحون في وجهه ويهددونه بأنهم سيقتلونه بطريقة مؤلمة جداً إن لم يعطِهم المعلومات التي يريدون... عرضوه لصدمات كهربائية. صحيح أنني لم أستطع رؤية كل ذلك، لكن ما سمعته كان كافياً ليدمرني ويجعلني أفقد كل أمل". يا له من حظ!

إذا أخذنا هذه الروايات والآلاف غيرها في الاعتبار، ندرك أن سورية تخطت كل الحدود قبل وقت طويل من استخدام غاز السارين قرب حلب، حسبما يُقال. رغم ذلك، بدا مهماً جداً أن يرسم أوباما خطاً أحمر في شهر أغسطس الماضي، معلنا أن استخدام هذه الأسلحة سيؤدي إلى أقسى رد ممكن.

قبل شهر قُدمت للرئيس الأميركي خلال اجتماع طويل مع بنيامين نتنياهو أدلة إسرائيلية على أن القوات السورية قامت بما حذر منه. لكنه ظل هادئاً، وتحدث عن الرد "بحذر". فدفع ذلك بإسرائيل إلى نشر ما تملكه من معلومات. منذ ذلك الحين، أكدت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية خلاصات وكالة الاستخبارات البريطانية (MI6) وغيرها من وكالات الاستخبارات. فقد استنتجت كل أجهزة الاستخبارات هذه أن الأسلحة الكيماوية استُخدمت على الأرجح. ولكن كيف؟ ومن قبل مَن؟ هل أمر الأسد نفسه باستخدامها أم أن قائداً محلياً قرر اختبارها بطريقة مبتكرة؟ لا تزال هذه الأسئلة غير واضحة وموضع جدل.

لكن هذا الجدال يستند إلى التخمينات، لم يخفِ الرئيس السوري مطلقاً اعتقاده أن استخدام هذا النوع من الأسلحة شرعي، فأنا أعرف ذلك لأنه أخبرني به عندما أجريت معه مقابلة لصحيفتي في مطلع عام 2004. كنا آنذاك في ذروة المحاولات الرامية إلى استمالته وإنهاء عزلته، ولكن حتى في تلك الفترة، بدا واضحا أنه غير متعاون، فما زلت أذكر وجه توني بلير خلال مؤتمر صحافي لا يُنسى في دمشق، حين أذله الأسد بالخروج عن النص وامتداح الانتحاريين الفلسطينيين، معتبراً إياهم خير خلف للمقاومة الفرنسية.

أخبرني حينذاك: "من الطبيعي أن نبحث عن وسائل للدفاع عن أنفسنا". ثم انتقل ليعد بـ"حوار كبير" مع الشعب السوري عن الديمقراطية. وربما كان يجب أن نتعلم من سمعة والده السيئة، الذي يُعتبر سفاح حماة، حيث قتل عشرات الآلاف عام 1982، أن ولده سيستعمل ذات يوم هذه الأسلحة ليحمي نفسه من شعبه، وأن ذلك "الحوار" سيكون حربا أهلية دموية.

بدأت كارثة سورية تتفشى، ويتدفق اللاجئون إلى الدول المجاورة، حاملين معهم البؤس وعدم الاستقرار، فيوشك الأردن على الانهيار كدولة: تجد هذه المملكة، التي تُعتبر قاعدتها العرقية ضئيلة مقابل أعداد المهاجرين الفلسطينيين، نفسها عاجزة عن التأقلم مع أكثر من مليون وافد جديد. وبدأ لبنان، الذي قلما ينعم بالاستقرار، يرزح تحت ضغط تدفق مماثل من اللاجئين، الذين ستوازي أعدادهم قريباً ربع سكان البلد. أما حكومة العراق الشيعية، التي تخشى أن يسيطر المتمردون السنّة في سورية على الحكم في بلادهم ومن ثم يدعمون السنّة عبر الحدود، فيُقال إنها تقدم الدعم للأسد سراً.

مع انهيار سورية والدول المجاورات وتحولها إلى دول غير فاعلة، لا يصعب علينا تخيل تصفية حساب أخيرة بين الشيعة والسنّة تجعلنا نحن إلى الثوابت الواضحة خلال الحروب الإسرائيلية-الفلسطينية. وإن كان العراق في أسوأ حالاته مغناطيسا جذب كل الكره في المنطقة، فلا شك أن سورية ثقب أسود.

تُعتبر بريطانيا في هذه الكارثة مشاركاً هامشياً في أفضل الأحوال، لم تعرب الحكومة عن أي رغبة في التدخل، فنتيجة تدابير التقشف، لا نملك الموارد الضرورية للتخطيط لاتخاذ خطوات فاعلة، حتى لو فاجأتنا الولايات المتحدة وقررت التدخل. يمكننا في أفضل الأحوال أن نوافق على الانضمام إلى مهمات قوات خاصة مشتركة لتأمين أسلحة الأسد الكيماوية. لكننا لا نستطيع تقديم المزيد، وحتى لو كنا نستطيع، كانت تجاربنا الحسنة النوايا في دول العالم الإسلامية ستردعنا، فقد أصبحنا متعبين وحذرين.

بخلاف ليبيا، لا يقتصر التدخل في سورية على تنفيذ بضع غارات جوية من البحر والعودة إلى الوطن سريعاً، لذلك، يكون أفضل ما يستطيع الوزراء فعله التعاون مع تركيا، القوة الوحيدة التي تتمتع بمصداقية عالية في المنطقة (والتي ترزح بدورها تحت عبء عدد كبير من اللاجئين)، وتنسيق فرض منطقة حظر جوي مع قطر والمملكة العربية السعودية بهدف إسقاط طائرات الميغ والمروحيات العسكرية، التي يستخدمها الأسد لينشر أكبر قدر من الدمار. ولكن في هذه الخطوات المحدودة أيضا علينا أن نتخطى أولا العناد الروسي، الذي ما زال يحير الدبلوماسيين. فقد حصلت موسكو على ضمانات تؤكد لها احتفاظها بقواعدها البحرية والاستخباراتية على الساحل السوري. رغم ذلك، تواصل عرقلة أي تدابير دولية ضد الأسد. كذلك تمده بالمعدات العسكرية، مع أنها أقرت أنها لا ترغب في بقائه في الحكم، ولكن ربما يصبح فلاديمير بوتين أكثر ميلاً للقبول بصفقة مع احتمال تسرب هذه الأسلحة الكيماوية من سورية المنهارة إلى القوقاز، إلى عتبة داره.

علمتنا الأزمة المالية حدود ما يمكننا فعله في وطننا، إلا أن سورية تذكرنا بتراجع طموحاتنا في الخارج أيضاً، فلا يهم أين نرسم الخط الأحمر: تبقى الحقيقة المرة أننا أكثر ضعفاً مما نتجرأ على الإقرار به.

Benedict Brogan

back to top