يوسف بك كرم... في الثقافة اللبنانية

نشر في 08-07-2012 | 00:02
آخر تحديث 08-07-2012 | 00:02
No Image Caption
يوسف بك كرم وجه لبناني طالما تسابق بعض الكتاب إلى تدوين كتب حول بطولاته وقداسته وشهامته ووطنيته وعروبته. في المقابل، ثمة من لديه نظرة أخرى إلى هذه الشخصية التاريخية التي ربما تشكل مرآة الحاضر في التاريخ اللبناني.

في سنة 1860، إبان المذابح التي تعرّض لها المسيحيون في دمشق وفي جنوب لبنان، التي استتبعت تدخل جيش نابليون الثالث، نظم زعيم أهالي زغرتا يوسف بك كرم التصدي للمهاجمين الدروز على رجاله المحاربين الجبليين. بعد مرور سنة، وفي أعقاب التسوية الدولية التي أنشأت الحكم الذاتي لجبل لبنان، والتي كانت موضوع مفاوضات بين الدول الأوروبية الخمس والسلطنة العثمانية، انتفضت هذه الزعامة نفسها على النظام الجديد.

كان يوسف كرم قد برز كـ{بطل ماروني» في الحرب الأهلية عام 1860، ثم عينه فؤاد باشا قائمقاماً مسيحياً بدلاً من الأمير بشير أحمد أبي اللمع بفضل مساندة بيكلار المفوض الفرنسي في اللجنة الأوروبية الخاصة بسورية. كان هذا الوجيه الماروني الصغير من شمالي لبنان الطموح للغاية والمتبجح (...). قد وضع آماله في أن يصبح حاكماً وطنياً لكلّ البلاد بمناسبة إعادة تنظيمه، وقاتل طانيوس شاهين ليثبت سلطانه، مثيراً بعض التعاطف من البريطانيين، لكن دون أن يسلّم بمطالب آل الخازن.

حركت آمال السلطة يوسف كرم طوال 15 سنة ضد المتصرفين الذين حكموا خلال الفترة (1862 – 1877). لكن الحركة من حيث قاعدتها الشعبية المارونية ذات الطابع الفلاحي وإمكاناتها كانت مرهونة في نهاية المطاف بموقف الكنيسة المارونية. ففي الفترة الأولى من عهد المتصرف الأرمني الكاثوليكي داود باشا، المدير السابق للبريد والرق في القسطنطينية، عرض على يوسف كرم شغل مناصب عدّة، دون جدوى. وعاد إلى قريته إهدن ليعلن معارضته المفتوحة. وتم نفيه إلى مصر من سنة 1861 حتى 1864، ولم يعد إلى لبنان إلا ليدبر عصياناً مسلحاً شدّ الانتباه الى مطالب أهالي الشمال في لبنان، تميز موقف الكنيسة بدعم شديد لحركة العصيان التي قادها يوسف كرم. فالخوارنة في القرى كانوا يدعون الناس في الكنائس للمشاركة الفعلية ثم حولوا الأديرة إلى مراكز للتجمع والتعبئة، وحمل الكثير منهم السلاح مع كرم. يصف ندره مطران هذا الواقع فيقول: «بفضل الدعاية الدينية أصبح كرم «بطلاُ أسطورياً» نسبت إليه أعمال حربية خارقة، وأشيع أن السيدة العذراء ظهرت عليه، ووضعت صورته في الكنائس، وكأن الناس أصبحت على اعتقاد أن المخلص أتى أخيراً»(...).

إلا أنه بعد هزيمة كرم عام 1866، والتي لم تكلف داود باشا شيئا يذكر، تبخرت هذه الدعاية بسرعة، فالكنيسة تخلت فجأة عن يوسف كرم، وكتب البطريرك إليه يدعوه إلى الامتثال والخضوع لأوامر المتصرف.

هذا الموقف المفاجئ للكنيسة يفسره إلى حد كبير موقف الحكومة الفرنسية المعارض لأي تحرك من شأنه إضعاف صيغة «النظام الأساسي» الذي يحضن مصالح فرنسا في الجبل. يخاطب القنصل الفرنسي مبعوثي البطريرك في موضوع دور الكنيسة في دعم يوسف كرم: «أنتم تهددون بالصواعق الروحية بحرمان البنات اللواتي يعملن في مصانع غزلنا لأنهن لا ينفصلن بما هو كاف عن الصبيان، ثم لا تجدون ما تعملونه ضد فرد يسيء استعمال اسمكم ويسير بالسلاح ضد حكومة بلدكم».

كذلك، فإن موقف البابا المعارض لعصيان كرم كان له تأثيره بلا شك. وعلى كل حال، فإن ما كان يبتغيه الإكليروس الماروني ليس إيصال كرم إلى الحكم، وهو أمر يعرف البطريرك جيدا أنه يستحيل في ظل الظروف الدولية السائدة. إذ شكل كرم ورقة معارضة ووسيلة ضغط ليس أكثر. فكان أن انفرط هذا الحلف بين كرم والبطريرك بعد التدخل الفرنسي والبابوي لمصلحة داود باشا، وبدأ صراع وسجال بين الطرفين، كانت نتيجته محاولات يائسة من جهة كرم لدى الباب والحكومة الفرنسية ومحافل دولية أخرى، ومن جهة ثانية مزيد من التكامل في المصلحة بين الجسم الإكليركي ومؤسسات النظام الجديد، تكامل لا يخلو بالطبع من تناقضات تنفجر بين الحين والآخر، لكنها تجد دائما حلها في «تسويات» تقوم بين «الحاكم المدني» والبطريرك، تضمن غالباً مصلحة هذا الأخير.

منطقة تبحث عن بطل

توفي كرم في منفاه في إيطاليا عام 1889. وأعيدت رفاته إلى إهدن حيث أفادت ذكراه الأسطورية في منطقة تبحث عن بطل. ورسخت في الذاكرة المحلية خرافة زعيم رجال الجبل الأحرار المقاومين لفرض مشيئة المدينة والسهول. وفي أكثر من تقرير قرأنا أن جثمانه المسجّى في كنيسة مار جرجس أهدن ما زالت حالته إلى حد كبير كما كانت يوم وفاته عام 1889، مع الإشارة إلى أن بعثة طبية إيطالية أثبتت منذ عشر سنوات أنه غير محنّط ووجدت نقاط دم في رأسه.

لا شك أن نظرة بعض اللبنانيين إلى يوسف بك كرم تأتي في إطار حروب الذاكرات، ففي حين يطالب بعض أقرباء كرم بضمه إلى وجوه الاستقلال اللبناني باعتباره بطلاً لبنان، نجد عشرات الكتب ومئات القصائد وبعض المسرحيات عن الشخصية الأسطورية لهذا الرجل، وفي حين يعتبره الموارنة بطلاً لبنانياً، لا يتردد الكاتب سركيس أبو زيد في الحديث عن «عروبة» الرجل، وتخطيه السياسة والقضايا الوطنية الى موضع آخر فيكتب: «يوسف بك كرم قديس غير مطوب، لقد جمع البطولة والقداسة، وتحول أسطورة في ذاكرة الشعب، لذلك يبتهل إليه الناس ويناجونه طالبين شفاعته ومساعدته في كل الأمور وبخاصة إيجاد الأشياء المفقودة. أنه صورة حية تنتمي إلى أسطورة شعب رفع البطل إلى عالم القداسة، فهو القديس الذي يعيش في وجدان شعبه، والبطل الذي أصبح قديساً وأسطورةً».

صورة يوسف كرم في عيون الدروز الذين حاربهم لها معنى آخر مختلف كلياً عن تلك الصورة التي نجدها لدى الموارنة. ففي رأيهم أن ما قام به لم يكن «ثورة» بل «فتنة». كتب أبو عزّ الدين وقد أرّخ مقالته في 19 أغسطس 1932: «يوم الجمعة 19 آب 1932 زرت جرجس بك صفا من دير القمر المقيم في بيروت، وهو واسع الاطلاع على تاريخ لبنان، خصوصاً ما اختص منه بعهد الأمير بشير الكبير وعهد المتصرفية الذي أدركه كله وقد ناهز التسعين من العمر، وقد تناول حديثنا ثورة يوسف بك كرم على داود باشا فقال: إن هذه الثورة كانت لاسباب شخصية لا لنزعة وطنية فان يوسف بك كان يطلب منصباً في الحكومة، فلما لم يعط ما كان يرغب فيه قام بالثورة».

وبات يوسف بك كرم الزعيم البطل، هذه الميتولوجيا تتجسد تكراراً في كل خليفة من سلالة آل كرم على رأس الزعامة الزغرتاوية. ومن خلال هذه الثابتة تتجدد خاصيّة مسيحيي الشمال، ليس عن طريق البعد الديني فحسب، بل البعد الأشد تعقيداً، أي بعد الهوية الجبلية. الطموحات السياسية لهذه الهوية لا ترمي فحسب إلى المطالبة بحق في الاختلاف على صعيد إقليمي، بل التأثير في المسرح الوطني اللبناني إن لم يكن الهيمنة عليه.

برزت الخرافة مجدداً سنة 1944، يوم كان لبنان قد حصل للتو على الاستقلال، حين دخل يوسف فيلكس كرم، حفيد يوسف بك كرم الكبير الذي خلفه على رأس أهالي زغرتا، إلى البرلمان. يومها سرت شائعة تقول إن أنصاره، وهم قوميون لبنانيون مناصرون لبقاء الوصاية الفرنسية، ينوون القيام بانتفاضة عامة تحت قيادته تتيح له أن يدخل بيروت على متن حصان أبيض(كان يوسف بك كرم، حسب المتخيل الشعبي، يقاتل الجيش العثماني ممتطياً حصاناً أبيض) على رأس جيشه الجبلي، الذي تحدوه رغبة قديمة في إخضاع العاصمة (ريشار لابيفيير – مجزرة إهدن).

back to top