أوباما يريدنا أن ننسى دروس العراق

نشر في 05-09-2010
آخر تحديث 05-09-2010 | 00:01
هكذا رحل الأميركيون من دون أن يحققوا الكثير من الأهداف الطموحة التي حُددت في أعقاب سقوط بغداد السريع. لذلك تخفي الزيادة في القوات، التي تُعتبر اليوم إنجازاً أسطورياً، وراءها صورة واسعة من التهور، والحسابات الخاطئة والهدر التي يتوق السياسيون والجنرالات والمحرّضون على الحرب بأشكالهم المختلفة، إلى نسيانها.
 ذي نيو ريبابليك  انسوا أمر حرب العراق، "حان الوقت اليوم لطي هذه الصفحة"، حسبما نصح على الأقل الرئيس أوباما. قال هذا الأخير يوم السبت الفائت: "إليكم الحاصل: الحرب انتهت". لكنها للأسف ليست كذلك، بل إن الصراع دخل فحسب مرحلةً جديدة. وقبل أن نسارع إلى طي الصفحة، كما تتوق الغالبية الساحقة من الأميركيين، يجب علينا التفكر في كل ما أوصلنا إلى هذه اللحظة. فإن لم نستغرق في التأمل، يستحيل أخذ العبر.

لنسترجع بعض الوقائع أمام أولئك الأميركيين الذين لايزالون مقتنعين بأن كل شيء تغير منذ اللحظة التي وطئت فيها قدما أوباما المكتب البيضاوي. بدأت حرب العراق، كما سيسجل المؤرخون اسمها، في عام 1990 حين غزا صدام حسين الكويت، دولة مجاورة مكروهة من العراق. طوال معظم العقد الماضي، رأت الولايات المتحدة في صدام حليفاً فريداً من نوعه، حصناً علمانياً ضد الخطر الوشيك للإسلام الأصولي الذي شكلت إيران آنذاك محوره على ما يبدو. وهكذا لم تمتعض واشنطن كثيراً من العدوان الذي شنه صدام ضد إيران في عام 1980، لا بل قدمت للديكتاتور العراقي يد العون حين واجهت فيالقه هزيمة واضحة.

لكن صدام  تخطى الحدود حين هاجم الكويت في وقت لاحق. فأدان الرئيس جورج بوش الأب الهجوم، وشبّه الديكتاتور العراقي بهيتلر، وأرسل 500 ألف جندي إلى الخليج العربي. قضت الخطة بتلقين صدام درساً لا ينساه، والحرص على أن يعلم جميع المعنيين من الذي يعطي الأوامر، والعودة إلى الديار.

لم تنته عملية "عاصفة الصحراء" بتلك الطريقة، إذ إن الانتصار العظيم الذي تحقق زاد الأمور تعقيداً. مع ذلك، عبر إخراج الجيش العراقي من الكويت، أنجزت قوات الولايات المتحدة وقوات التحالف المهمة التي أُرسلت لتنفيذها واستحوذت على واشنطن فكرة أن رد العداون فحسب غير كاف. لذا استمرت لعنة بوش في بغداد، وظلت جامحة. وهكذا ما بدأ كحرب لتحرير الكويت تحوّل إلى هوس بالإطاحة بصدام. فتواصلت حرب الولايات المتحدة ضد العراق طوال تسعينيات القرن الماضي على شكل ضربات جوية وهجمات صاروخية، مناورات ومظاهرات، ومؤامرات من تخطيط وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وعقوبات مشددة، وبلغت ذروتها في النهاية مع إصدار بوش قراره بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001، بتقديم اسم صدّام على اسم أسامة بن لادن في قائمة الإرهابيين الذين تجب تصفيتهم.

في النهاية، أتم الهجوم بقيادة الولايات المتحدة على بغداد في عام 2003 المهمة التي لم تُستكمل في عام 1991، بل هكذا بدا على الأقل. فقد تحقق ههنا نصر حاسم، تأكد بالقبض على صدام حسين نفسه في ديسمبر 2003. أعلن آنذاك ل. بول بريمر، الحاكم الأميركي المدني في العراق بفرح: "سيداتي وسادتي، أمسكنا به".

لكن في اللحظة التي أعلن فيها بريمر عن ذلك، كان العراق قد أمسك بنا، لأن القبض على صدام، فضلاً عن إعدامه لاحقاً، لم يوح بشيء. وهكذا بدأت الجولة الثانية من حرب العراق، بعد أن مهدت الحرب ضد صدام (2003-1990) للاحتلال الأميركي (2010-2003). فكانت الحرب التي تهدف إلى جعل العراق على صورة الولايات المتحدة.

مع وجود مسؤولين أمثال بريمر في الطليعة، شرعت الولايات المتحدة في تحويل العراق إلى "مدينة مثالية" في الخليج العربي، منارةً لديمقراطية ليبرالية ذات توجه غربي تنير بقية دول العالم العربي والإسلامي وتلهمها. لكن حين قوبلت هذه الجهود بالمقاومة، ردت القوات الأميركية، المعتادة على استخدام القوة الكاسحة، بقساوة عشوائية. دعا الرئيس بوش تلك المقاربة بـ"تلقين العراق درساً". لكن الشدة أعطت عكس النتائج المرجوة ولم تفلح سوى في إغراق العراق في الفوضى. بنتيجة الأمر، شهدت الجبهة المحلية رد فعل سلبياً حاداً ضد ما اصطُلح على تسميته "حرب بوش".  

سعت إدارة بوش، بسبب عجزها عن الانتصار وعدم استعدادها لتقبل الهزيمة، إلى إيجاد ظروف تسمح لها بالخروج من مأزقها بشكل لائق. فكانت خطة "زيادة عدد القوات" المعدلة التي سُوّقت لأهداف سياسية محلية كـ"طريقة جديدة للمضي قدماً"، بمنزلة فوضى استراتيجية. فقد تسلّح الرئيس بوش بجرأة إضافية لدفع المزيد من الدماء والأموال الأميركية وخفض التوقعات في الوقت عينه بشأن ما تستطيع القوات الأميركية إنجازه. عندئذ لقيت تكتيكات جديدة هدفها قمع حركة التمرد العراقية قبول بوش، وكذلك الخطة الجديدة برشوة المتمردين للتوقف عن القتال.   

بنتيجة الأمر، تراجع العنف اليومي الذي جعل العراق أشبه ببؤرة جحيم، لكنه لم يختف تماماً.

في الوقت عينه، انهارت الحقائق التي كانت مقدّسة في السابق. فلم يعد المسؤولون الأميركيون يعدون بأن يثير سقوط صدام موجةً من الإصلاحات التحريرية في أنحاء العالم الإسلامي. كذلك خلت أبرز الصحف في البلاد من مقالات الافتتاحية التي كانت تشهد عادةً على التزام الولايات المتحدة المستمر بحقوق النساء العراقيات.

فضلاً عن ذلك، تنصل الجنرالات الأميركيون المحترمون، الذين احتفظوا وحدهم في عام 2007 بذرَّة من المصداقية بشأن العراق، من الاحتمال الكبير بالانتصار. هذا وبات الإعلان عن "عدم وجود حل عسكري" في الأوساط العراقية بياناً رائجاً.  

في المقابل، بينما ارتقى باراك أوباما إلى سدّة الرئاسة، كانت هذه المرحلة الثانية من حرب العراق والتي تحوّل هدفها اليوم من الاحتلال إلى التحرر، قد بلغت مرحلة متقدمة مسبقاً. فمنذ توليه الرئاسة، لم يفقد أوباما ثقته بالعملية التي أطلقها سلفه، مستخدماً نجاح الرئيس بوش كأساس لنجاحه. يُشار إلى أن "النجاح" في ما يخص العراق بات مصطلحاً شديد المرونة، إذ يتكيف بسهولة مع القنابل التي تنفجر في المدن العراقية والهجمات التي يشنها المتمردون ضد القوات العراقية والمنشآت الحكومية.

يعيدنا ذلك إلى الحاضر. فبعد مرور أكثر من سبع سنوات، انتهت عملية "تحرير العراق" لتبدأ عملية "الفجر الجديد"، التي يوحي اسمها بكريم للبشرة أو سائل لغسيل الصحون. ماذا حل بعادة استخدام أوصاف مثل الشعلة أو السيد الأعلى أو التنين لتسمية العمليات العسكرية؟ برغم بقاء نحو 50 ألف جندي في العراق، فإن مهمتهم لا تقضي بالقتال، وإنما بتقديم المشورات ومساعدة نظرائهم العراقيين. وفي عام آخر، إن جرت الأمور على خير ما يرام، سينسحب هذا العدد الأخير المتبقي من الوجود العسكري الأميركي.

وهكذا رحل الأميركيون من دون أن يحققوا الكثير من الأهداف الطموحة التي حُددت في أعقاب سقوط بغداد السريع. لذلك تخفي الزيادة في القوات، التي تُعتبر اليوم إنجازاً أسطورياً، وراءها صورة واسعة من التهور، والحسابات الخاطئة والهدر التي يتوق السياسيون والجنرالات والمحرّضون على الحرب بأشكالهم المختلفة، إلى نسيانها.

في الوقت عينه، لم يتمكنوا من حل أو تسوية أي شيء في العراق، إذ ولّدت الجولة الأولى من حرب العراق فوضى عارمة لم تزدها الجولة الثانية إلا سوءاً. وها هي مواكب الآليات الأميركية المصفّحة المتّجهة جنوباً إلى الكويت ومن ثم إلى الوطن، تترك الساحة جاهزة للجولة الثالثة.  

سمّوها إن شئتم حرب التصميم الذاتي في العراق التي ستبدأ في عام 2010 لكننا نجهل متى ستنتهي. مع ابتعاد الولايات المتحدة عن الساحة، سيستغل العراقيون فرصة تحديد مصيرهم، مسار سيكون حافلاً حتماً بالاقتتال الإثني، الطائفي والقبلي. لن يستطيع أحد معرفة نتيجة هذه الحرب بالضبط، لكنها حتماً لن تكون سارة.

مع ذلك، نحن أكيدون من أن الحرب باتت اليوم في نظر الأميركيين ملكاً للعراقيين. أشار الرئيس أوباما في الآونة الأخيرة: "العراق حر اليوم بتقرير مصيره، شأنه شأن أي أمة تتمتع بالسيادة والاستقلال". لعل الفوضى تعمّ المكان، لكن هذه الفوضى باتت تعنيهم ولا تعنينا. ووفق هذا المنطق فحسب "انتهت" حرب العراق. لا شك في أن القوّات الأميركية انسحبت بطريقة منظّمة. برأيها، لم تُهزَم ولن يستطيع أحد هزمها. ومع انسحاب الجنود، بدأ الشعب الأميركي يمضي قدماً: حتّى اليوم، حلّ الأفغان محل العراقيين بالاستفادة من رعاية واشنطن وخدماتها. وعلى نحو غريب، لا بل مزعج، يبدو معظمنا نحن من تخوننا ذاكرتنا ونتّصف بالسذاجة راضياً بالنتيجة. لكن الولايات المتحدة تنسحب من العراق من دون أن تستخلص العبر.

Andrew Bacevich * بروفيسور في التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة بوسطن. كتابه الجديد بعنوان Washington Rules: America’s Path to Permanent War.

back to top