شؤون القُصَّر


نشر في 04-04-2011
آخر تحديث 04-04-2011 | 00:01
 جاسم السعدون يقف مواطن كويتي مرعوباً أمام إحدى «السيطرات» أيام الاحتلال البغيض، بعد أن اعتقد الجنود العراقيون على «السيطرة» أنهم اصطادوا صيداً ثميناً، فقد كانت هوية العمل التي يحملها تذكر منصبه في الهيئة العامة «لشؤون القصَّر»، وقرأها الجنود على أنه مسؤول «شؤون القصْر»، أي شؤون قصر الحاكم، واحتاج الأمر إلى كوكبة من الجنود ترافق المواطن المرعوب حتى منطقة شرق في مدينة الكويت ليريهم مقر عمله البعيد جداً عن هيئة القصور، وليشرح لهم أن مهمته هي حماية حقوق الورثة اليتامى من صغار السن، أو من هم دون الـ21 عاماً.

وفي الكويت، أغلبية السكان الكويتيين أو 51 في المئة منهم دون سن الـ21 سنة، أو قصَّر، وأضعافهم لم يولدوا بعد، ويبدو أننا نحتاج إلى جمعية أهلية لشؤون القُصّر لحمايتهم من جشع الأقلية من كبار الجيل الحالي، الذي يحاول اقتسام كل شيء، وعدم ترك أي شيء لهم.

إن من ينظر إلى مطالبات كبار الجيل الحالي بإسقاط قروضه وتعديل كوادره وإلغاء فواتيره ومنحه هبات وعطايا، حتى بلغ الأمر ببعضهم الطلب من محامين رفع قضايا لتحصيل نصيبهم مقدماً من النفط، يدرك كم هو البلد في حاجة إلى من يدافع عن شؤون القُصّر. ويفترض، أن تتولى الدولة الاهتمام بشؤون القُصّر على المستوى العام، كما هي حال هيئة شؤون القصر على المستوى العائلي، ولكن، ذلك ما لا يحدث ولا يبدو أن هناك أملاً في أن يحدث، لانحياز الإدارة العامة فترة طويلة لمصلحة مشروع الحكم على حساب مشروع الدولة، أو مشروع الاقتسام لشراء الولاء على مشروع البناء.

وربما من الأفضل استعراض مثال واقعي بشأن مسؤولية الدولة عن شؤون القصر، قبل الخوض في سيناريو الكارثة الذي تتبناه الكويت، وأفضل وأقرب الأمثلة هو المثال النرويجي. وأهم الوثائق التي تبنتها الحكومة والبرلمان النرويجي المنتخبان بالكامل لغرض تجنب «نقمة النفط» و»تعظيم نعمته»، كان التقرير رقم 25 لسنة 1974، ومن أجل فهم مقاصده، لابد من استعراض مرتكزاته حتى نفهم كم هم متفوقون حضارياً. أول المرتكزات كان التحكم في منح حق البحث عن النفط في 200 رقعة من أصل 278 قطعة بما لا يزيد على 5 رقع سنوياً حتى تتم السيطرة على تدفق النفط بما يسمح باستيعاب آثاره تدريجياً، وثانيها الحفاظ على تنافسية الصناعات التقليدية وعدم السماح بإفراغها من عمالتها لمصلحة الصناعات النفطية، وثالثها، ولعله أهمها، التحكم في تدفق إيرادات النفط إلى قنوات الإنفاق، بحيث لا يفقد الاقتصاد النرويجي تنافسيته أو تصيبه تخمة النفط المؤقتة، أو ما يعرف في علم الاقتصاد بـ»المرض الهولندي» أو التأثير السلبي لتدفقات النقد الأجنبي السهلة والوفيرة في إنتاجية الإنسان وتكلفة الإنتاج للسلع والخدمات الحقيقية.

وحتى لا نطيل، حصَّنوا المالية العامة في النرويج لمنع ضرر تدفقات إيرادات النفط إلى أيادي السياسيين بحيث لا تستخدم إلا لمواجهة عجز لا يمكن اجتنابه، وبما لا يتعدى 4 في المئة من دخل الاستثمارات المتحصلة على دخل النفط، وليس من دخل النفط. وفي عام 1990 أسسوا صندوق النفط، وفي عام 1996 حولوا إليه كل الأموال من خزينة الدولة، وحددوا أسواق استثماره وبالنسب في 5 أسواق ليس ضمنها السوق المحلي منعاً للضغوط التضخمية أو التكسب السياسي، ووضعوا سقفاً بحدود 40 في المئة من استثماراته للأسهم، وغيروا اسمه إلى صندوق التقاعد في عام 2005، وزادوا سقف الاستثمار في الأسهم إلى 60 في المئة في عام 2007 ووضعوا حداً أقصى 5 في المئة للاستثمار في العقار في عام 2010، وأصبحت كل تفاصيل استثماراته منشورة ومتاحة للجميع، وحجمه كما في نهاية عام 2010 كما يقدره البنك المدير - Norges Bank Investment Management - يبلغ 453 مليار دولار أميركي أو نحو ضعفي حجم الصندوق السيادي الكويتي الذي تأسس في خمسينيات القرن الماضي، والنتيجة لذلك العمل الحضاري هي أن النرويج أصبحت خامس أفضل بلد في العالم وفق آخر الإحصاءات المقارنة، ليس في مستوى الدخل وعدالة توزيعه فقط، لكن في نوعية الحياة، أي الحرية وانحسار الفساد ونظافة البيئة والشفافية...الخ.

واضح جداً، لماذا لا يحتاجون في النرويج إلى جمعية أهلية لـ»شؤون القصَّر»، فإذا كان الرشد يكتسب ولا يورث، فلديهم فائض منه قابل للتصدير، ونتمنى لو استوردت بعضه حكومتنا الرشيدة بالوراثة. ودعونا نحكي مبررات حاجتنا في الكويت إلى بعض المهتمين بـ»شؤون القصّر» والأرقام قاطعة في قراءة مسارنا تاريخاً وحاضراً ومستقبلا، فالتاريخ كان أفضل، إذ تشير الوثائق البريطانية إلى انخفاض الإنفاق على التعليم من 43 في المئة من الإنفاق الجاري في عام 1950، إلى 13 في المئة للأعوام من 1966 إلى 1968 وارتفاع نصيب نفقات الأمن والدفاع من 12 في المئة إلى 20 في المئة من الإنفاق الجاري في الفترة نفسها، وارتفاع ما رصد للاستملاكات العامة إلى رقم قياسي -94.7 مليون دينار كويتي- عندما كان مجمل النفقات العامة نحو 132.15 مليون دينار كويتي، أو تردي نوعية الإنفاق مع الانتقال من مشروع الدولة إلى مشروع الحكم مع أول تزوير للانتخابات النيابية. وطبقاً للوثائق البريطانية أيضاً، ساهمت إيرادات النفط بنحو 90 في المئة في تمويل النفقات العامة للفترة من 1950 إلى 1967/1966، وساهمت إيرادات النفط بنحو 90.2 في المئة من تغطية النفقات العامة في آخر حساب ختامي عن السنة المالية 2010/2009، أي أن تنويع مصادر الدخل على مدى 60 عاماً كان مجرد مزحة.

لنترك الماضي البعيد، ولنرَ ماذا تعلمنا لاحقاً، لا شيء على الإطلاق هي الإجابة، فخلال عقد الثمانينيات، كان معدل الإنفاق العام السنوي نحو 2.92 مليار دينار كويتي، ومساهمة النفط في تغطيته بلغت نحو 92 في المئة، ارتفع ذلك المعدل في حقبة تسعينيات القرن الفائت شاملاً تكاليف بناء ما دمره الغزو إلى 4.2 مليارات دينار كويتي وانخفض نصيب إيرادات النفط في تغطيته إلى نحو 88 في المئة، وتولى احتياطي الأجيال القادمة تغطية الفرق، وتآكل نحو 65 في المئة من ذلك الاحتياطي، وارتفع ذلك المعدل في العقد الأول من القرن الحالي -من الحساب الختامي باستثناء السنة المالية 2010/2011 من الموازنة ناقصاً 5 في المئة إلى 9.5 مليارات دينار كويتي، وارتفعت مساهمة إيرادات النفط في تغطيته إلى 89.5 في المئة مع كل التدهور في نوعية الإنفاق وفساده ودوره في تقويض تنافسية الاقتصاد وتنافسية رأس المال البشري، ذلك يعني أن معدل الإنفاق العام السنوي ارتفع في عقد واحد من الزمن ما بين تسعينيات القرن الفائت والعقد الأول من القرن الحالي بنحو 2.3 ضعف.

ولنذهب إلى المستقبل القريب، أو عقد من الزمن فقط، أي حتى قبل تسليم الأمانة إلى قصَّر اليوم، وهي الحقبة أي العقد الذي ينتهي في السنة المالية 2021/2020 ويبدأ مع السنة المالية الحالية في 2011/4/1 بمشروع موازنة بحدود 19 مليار دينار كويتي لتغطية النفقات العامة، وإذا قدر للإنفاق العام أن ينمو بنفس المعدل خلال العقدين الفائتين، فسيعني ذلك أن مستوى النفقات العامة في آخر سنة من العقد أي في عام 2021/2020 سيبلغ 37 مليار دينار كويتي.

إنه سيناريو الكارثة، لقد حاولت فيه أن أكون أكثر تفاؤلاً من تقرير «توني بلير»، ورغم ذلك، كانت النتيجة واحدة، وهي أن الاستمرار في هذا المسار يعني الضياع، ليس للجيل الذي يريد الاستيلاء على كل شيء، وإنما للقصَّر من هذا الجيل، أي أكثريته أو 51 في المئة من الكويتيين حالياً، ومن لم يولد منهم بعد.

عودة إلى النرويج، يقدر مدير الصندوق السيادي أن يبلغ حجم صندوقهم مع نهاية عام 2014 نحو 756 مليار دولار أميركي، يسمونه صندوق التقاعد لأنه حق مطلق للصغار ومن سيولد، لذلك هم قطعاً ليسوا في حاجة إلى هيئة أهلية ترعى شؤون القصر. ولدينا، سنتركهم بلا نفط يكفي، بلا رصيد أموال، بلا وظيفة أو سكن أو تعليم ملائم، ببساطة بلا مستقبل آمن، لأننا جيل يريد كباره الاستحواذ على كل شيء حالاً، يرحم الله صغارنا برحمته، ليس فقط لأننا لن نترك لهم شيئاً يفخرون به في دنياهم كما يفعل النرويجيون، وإنما سنورثهم مهمة في غاية الصعوبة، إذ لن يجدوا محاسن لموتاهم يذكرونها من أجل حسنات آخرتهم.

كلمة أخيرة، من حق الجميع الاجتهاد في أي اتجاه، ولمن يتهم من يكتب في اتجاه الحفاظ على مستقبل قصر الجيل الحالي، بأنه ليس أكثر من انحياز طبقي لعلية القوم، أقول، إنه انحياز طبقي مماثل لانحياز النرويجيين المنتخبين، وهو بعيد في مقاصده عن ذلك الاتهام، «بُعْدَ هيئة شؤون القُصَّر» عن «شؤون القَصْر».

back to top