صانعة النجوم عاشت في أحضان الأُنس والألم...(1) بديعة مصابني ملكة الشقاء والليل

نشر في 11-08-2010 | 00:00
آخر تحديث 11-08-2010 | 00:00
في بداية القرن العشرين بدأ العالم العربي يشهد طفرة كبرى في شتى المجالات، السياسية والاجتماعية والثقافية، وفي مثل هذه المراحل من حياة الشعوب تترسّخ قناعة لدى فئات المجتمع المختلفة بتقبّل الجديد واستيعابه مع بعض الحذر.

آنذاك، لم تكن هناك إذاعات، أو بث تلفزيوني أو فضائيات وكانت السينما لا تزال في مرحلة التكوين، والفنون المسرحية ضيقة للغاية، شأن أنواع الفنون كافة التي تطورت وانتشرت على أوسع نطاق في القرن الماضي، وكان خروج المرأة ولو لتلقّي العلم من الممنوعات.

وسط هذا المناخ، ظهرت بديعة مصابني تلك الشقراء القادمة من بلاد الشام، التي استطاعت في غضون سنوات قليلة إشعال شوارع القاهرة وتحويل ليلها نهاراً، عبر الرقص والتمثيل، فكانت إحدى «رائدات» فن الرقص، وإحدى نجمات المسرح والسينما في ثلاثينيات القرن الماضي، فهي بطلة فيلمَي «أم السعد»، و{ملكة المسارح»، وغيرهما، كذلك كانت بطلة مسرحيات شهيرة عدة، في مقدّمها «الليالي الملاح»، وكانت صاحبة أكبر وأشهر صالة للرقص في مصر وفي الشرق كله، «كازينو بديعة»، ومالكة مدرسة خاصة للرقص الشرقي تخرّجت منها نجمات مشهورات مثل: تحية كاريوكا، سامية جمال، ببا عز الدين، حكمت فهمي وغيرهن، ورئيسة فرقة مسرحية خرج منها نجوم كبار أمثال إسماعيل ياسين.

قصة حياة بديعة مصابني حافلة بالحوادث والمواقف الغريبة، فهي بدأت من الصفر، وواجهت شقاءً أسطورياً في بدايات حياتها، وسارت سنوات عمرها فوق موجات الحياة ما بين علو وانخفاض، فعانت الفقر والجوع، وذاقت مرّ الحرمان وخشونة العيش، ثم عاشت النعيم بألوانه كافة، وانتكست لها هامات الرجال وذوي السلطان، وما بين صعود وهبوط، شقاء ونعيم، سطوع وأفول، عاشت بديعة حياتها التي نعرضها من خلال هذه الحلقات.

لا أحد يعرف على وجه اليقين متى وُلدت بديعة، الأرجح في عام 1894 في دمشق، لأب لبناني وأم سورية، كان والدها يملك معمل صابون صغيراً يرتزق منه أفراد الأسرة كلّها، وعُرف الحي الذي وُلدت فيه في دمشق بصناعة الصابون، ومن هنا أخذت العائلة لقب «مصابني».

تألفت عائلة بديعة من سبعة أشقاء، فكان الوالد يعمل ليلاً ونهاراً في معمله ليفي حاجات الأسرة، ويؤمن نفقات البيت، وظلّ على هذه الحال حتى رحل من دون أن يكون بين أبنائه من يستطيع الحلول محلّه، مع ذلك لم يكن أمامهم إلا أن يديروا المصبنة التي تركها الأب كمصدر رزق وحيد.

لم تستمر الأمور في استقرار، فذات ليلة مظلمة اشتعلت النيران في المصبنة التي احترقت بما فيها، وبعد هذا الحادث بقليل رحل أحد أشقاء بديعة محموماً، والذي كان من المنتظر أن يأخذ دور الأب، فأضحت العائلة مضرباً للمثل في الفقر والعوز، وبسط الحزن أشرعته على الأسرة المنكوبة.

كان لبديعة أخ من ذوي الأخلاق الفاسدة، وقف مع الزمن ضد الأسرة، فكان عبئاً كبيراً عليها، وفي إحدى الليالي اختفى عن الأنظار، وعبثاً حاول أفراد الأسرة إعادته ليكون عوناً لهم في مواجهة أيامهم الصعبة، ولم تجد الأم من يعينها على متطلّبات الحياة، فباعت ما كانت تحتفظ به من مجوهرات، لكنها لم تنتفع بثمنها، فقد سرق اللصوص هذه الأموال(!!) وأبى شبح الفقر أن يغادر منزل الأسرة، فاشتدت حلكة لياليهم، وقسوة أيامهم، وكانت بديعة آنذاك طفلة تشهد هذه المآسي التي لا تُحتمل.

فضيحة في سن البراءة!

كان أحد أشقاء بديعة مدمناً، فوجد ضالته في إحدى الحانات، وكانت بديعة يومياً تمر عليه وهي عائدة من مدرستها، لتأخذ منه قطعة حلوى تفرح بها شأن كل الأطفال.

في إحدى هذه المرات لم تجد بديعة شقيقها، فذهبت تسأل عنه صاحب الحانة الذي أوهمها بأن شقيقها في الداخل، وما إن دخلت حتى انقضّ عليها كالوحش الكاسر فنال منها وأفقدها عذريتها وهي في سن صغيرة.

بكت بديعة وصرخت واستغاثت لكن من دون جدوى، فعادت بحزنها إلى البيت، وأخبرت أمها التي راحت تلطم خدّها وتبكي، ثم أخذت طفلتها وعادت بها إلى الحانة ومعها شيخ الحارة، وهناك وجدت ابنها (شقيق بديعة) يجالس مغتصب أخته، فقبض شيخ الحارة عليه، وانتشرت الفضيحة، فحُكم على مغتصب بديعة بالسجن مدة سنة، وعلى شقيقها لمدة ستة أشهر.

كانت شقيقة بديعة الكبرى متزوّجةً، قبل ذلك الحادث الذي حوّل حياة الأسرة إلى جحيم، وكان زوجها ورث عن والده منزلاً في إحدى ضواحي دمشق، ومبلغاً من المال، فاعتمد على ما ورثه في مصاريف حياته ولم يبحث عن أي عمل، حتى نفد ما لديه من مال فأصبحت حياتهما سوياً لا تطاق، فعادت الشقيقة إلى منزل العائلة، وشكّلت عبئاً مادياً ومعنوياً على أسرتها الغارقة في فقر مدقع، لكنها ما لبثت أن توفيت تاركة وراءها طفلة، أخذها والدها بعد ذلك، ثم انقطعت أخبارها.

حين ضاقت الحياة في وجه الأسرة قررت الاعتكاف في أحد الأديرة، لتبتعد عن جو الفقر واليأس والعار والفضيحة التي ألّمت بها إثر اغتصاب بديعة، فاضطرت شقيقتها نظلة إلى العمل بالخياطة، واستطاعت في وقت قليل إتقان تلك المهنة، وشرعت في البحث عن مكان تشغله كمعمل، فاختارت المنزل الذي كانوا يقيمون فيه، وبدأت رحلة البحث عن فتيات يعملن معها في المشغل، لكن رفضت كل الأسر أن تذهب بناتهن الى منزل بديعة بسبب ما جرى لها.

ألقى حادث بديعة بظلاله على حياة أفراد الأسرة وجعلهم يعيشون في عزلة عن جيرانهم، فالكل قاطعهم، وكانت ألسنة الناس تلاحق شقيقاتها بالكلام الجارح في كل مكان، فكانت هؤلاء الشقيقات يفرغن غضبهن في بديعة ضرباً وركلاً وقذفاً وسباً، ثم وصل الأمر أن هددت إحدى شقيقاتها بالانتحار أو قتل بديعة إذا لم توافق أمها على ترك البلد.

الهجرة إلى الأرجنتين

آنذاك، ما بين أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كانت هجرة الشوام إلى بلاد أميركا الجنوبية في أوجها، فقد ساهمت عوامل عدة سياسية واجتماعية لنزوح أعداد كبيرة منهم إلى تلك القارة، وأضحى لهم وجود ملحوظ فيها، فأسسوا المشاريع، وأقاموا المؤسسات، لدرجة أن أحدهم أصبح رئيساً للأرجنتين، وهو كارلوس منعم.

في سبيل تدبير الأموال اللازمة للسفر، رهنت الأم منزل العائلة في دمشق مقابل مائتي ليرة ذهب، وهكذا غادرت بديعة دمشق بصحبة أمها وشقيقتها نظلة، إلى بيروت أولاً، حيث التقت بأشقائها في دير الناطور، ثم اتجهوا إلى المرفأ، ومن هناك التمّ الشمل في الدرجة الرابعة بإحدى البواخر.

كانت الرحلة طويلة وشاقة جداً، وكلما واجهت الأسرة موقفاً صعباً تطلّعت إلى بديعة، وتعاملت معها تارة بالضرب، وطوراً باللعنات والسباب، على أساس أنها سبب العذاب الذي يواجهونه، لدرجة أنها كانت تحتمي بالبحارة الذين أشفقوا عليها، ودافعوا عنها، حتى وصول الأسرة إلى الأرجنتين.

في بيوينس أيرس

وصلت الباخرة إلى مدينة بيونس أيرس، عاصمة الأرجنتين، ونزلت بديعة مع عائلتها، وقد ضمّ المشهد الكثير من العرب المغتربين، لم تكن العائلة على صلة بأحد من الذين برحوا الباخرة، ولا كانت تعرف أحداً من ركابها، فانخرطت وسط العرب المهاجرين الذين كانوا يقطنون شوارع معينة كانت مخصّصة لهم، وفي أحد الشوارع القذرة المخيفة الذي لا يسكنه سوى الفقراء والمهمشين نزلت عائلة بديعة، حيث كان يقيم في كل غرفة ستة أفراد، إذ لم يكن أمامها من حلّ بديل.

كانت حياة أفراد الأسرة صعبة للغاية، فصباحاً كانوا يذهبون إلى الضواحي البعيدة ليعملوا، ومساءً يعودون محطّمين، وليس معهم سوى مبلغ زهيد لا يسدّ حاجتهم، وعلى رغم ذلك كانوا ليلاً يؤلفون حلقات رقص وغناء، فالمهاجرون أبناء لغة واحدة، ومصير مشترك، وفي النهاية اختاروا كلّهم الغربة بحثاً عن الرزق، أما بديعة وعائلتها فقد اختاروا الغربة بديلاً عن العار، وهرباً من فضيحة لا يد لهم فيها.

زواج نظلة

ذات يوم وفيما كان شقيقا بديعة منهمكين في عملهما، دخل عليهما التاجر الذي يعملان لديه، وفتح حواراً معهما فأخبراه بأنهما يعيشان مع أمهما وشقيقتين، فراح يشدّ من أزرهما، وروى لهما أنه لم يبدأ تاجراً كبيراً، بل كان أجيراً في بادئ الأمر، ثم استأذنهما أن يزورهما في المنزل، وذلك لاستحسانه هيئتهما، وشعوره بأنهما على خلاف المهاجرين الذين يراهم دائماً بحكم عمله.

في المنزل، التقى التاجر أفراد الأسرة جميعهم، فأبدى إعجابه بنظلة، وظل هذا الغريب الذي يُدعى ميخائيل جريوس يتردّد على منزل العائلة حتى طلب الزواج من نظلة، على رغم أنه تعدى الخمسين ومتزوّج من امرأتين، فيما كانت تحلم نظلة بزوج شاب يعوّضها عما ذاقته من أسى ومرارة. راح ميخائيل يغدق الهدايا على الأسرة وأودع بديعة في مدرسة داخلية، وأمام هذه الإغراءات قررت العائلة بيع نظلة له أملاً بالتخلّص من الظروف الصعبة التي تواجههم، فتمّ زواجها منه.

لم تهنأ بديعة ولا عائلتها بزواج نظلة الذي دفع الشقيقين إلى الكسل، وراح كل منهما يضع بما يبيع من أموال في جيبه، حتى انكشفت ألاعيبهما وسرقاتهما، فنفدت البضاعة وأفلس المحل، وكعادة كل منهما راحا يتهربان من المسؤولية، وانتهى بهما الأمر إلى ترك العمل عند ميخائيل، والتفكير ثانيةً بالسفر خارج هذه البلاد.

بديعة والمدرسة

اختار كلا الشابين السفر إلى جهة مختلفة، فتفرّق شمل الأسرة، وفكرت الأم في بديعة، إذ لا بد من إخراجها من المدرسة وإعادتها الى البيت، فذهبت إلى هناك وطلبت من رئيستها استرجاع ابنتها، فرفضت لعدم معرفتها بها، إذ كان المسؤول أمامها ميخائيل زوج نظلة، فجن جنون الأم، وأخذت تصرخ، وحاولت تحطيم باب المدرسة، حتى تجمّعت حولها الراهبات، وزادت في صراخها حتى سيطر على بديعة رعب داخلي، فهي لا تريد العودة إلى المنزل، إذ طابت لها الحياة في المدرسة.

عادت بديعة مع أمها والدموع تملأ عينيها، وخوف شديد مسيطر عليها، فهي ستعود إلى العذاب الذي يملأ المنزل، راحت تتذكر حياتها في المدرسة، وعطف الراهبات عليها، وحبّ المدرّسين لها، وسعادتهم بها لكونها أتقنت اللغة الإسبانية في فترة وجيزة، متحسّرة على أيامها في مسرح المدرسة، لقد كان أول معرفة لبديعة بالمسرح في تلك المدرسة، حيث كانوا يسندون إليها الأدوار التمثيلية والغنائية، فكانت تؤديها على أكمل وجه، فقد اكتشفت الراهبات مواهبها الفنية، وكن يساعدنها على ممارستها، وهكذا كان المسرح بالنسبة الى بديعة الدنيا الجميلة التي يمكنها من خلاله الهرب من الغرفة المظلمة التي ظلّت تطاردها.

ذات يوم استغلت بديعة فرصة غياب أمها وهربت من البيت، وعادت ثانيةً إلى المدرسة، المكان الذي ودعت فيه الحزن واليأس والضجر، وعرفت فيه معاني السعادة والإنسانية، كانت في حالة من الإعياء الشديد، تتلفّت حولها كاللص الذي يترقب وصول الشرطي، كانت تخشى أن تعود إلى سجن البيت مجدداً، وفيما كانت الدموع تنهمر على وجهها راحت الراهبات يطيبن خاطرها، وحنت الرئيسة على تلك الطفلة التعيسة الحظ، فرحبت بها وأدخلتها إلى المدرسة، واتصلت بشقيقتها نظلة تطلعها على خبر عودة بديعة ورجتها ألا تخبر أمها.

بعدما اكتشفت الأم غياب بديعة جنّ جنونها، وراحت تبحث عنها في كل مكان، وسألت عنها نظلة التي تظاهرت بعدم معرفتها الى أين ذهبت أختها، فخطرت في بالها المدرسة، فذهبت إلى هناك تصرخ وتبكي، وتستجدي قلوب من في المدرسة، حتى تجمّع المارة وتعاطفوا معها، ولم يكن من بد سوى تسليم بديعة الى أمها، فعادت ثانية الى المنزل وأشباح الوحدة واليأس والخوف تهيمن عليها.

كانت الأم ترى أن بديعة سبب تعاسة العائلة، فهي التي جلبت لهم العار، ولولا فعلتها لكانت الأسرة تعيش بكرامتها في موطنهم بدمشق، ولم تنسَ كيف أن بيتها كانت تملؤه السعادة، وكيف خلا بعد وفاة الأب والابن ثم وفاة الابنة الكبرى في الشام، كان البيت المرهون في الشام يلوح لها كطيف تحلم بالعودة إليه، ففقدت صوابها، وتبددت أحلامها في حياة طيبة وسعيدة، وأمام هذه الخواطر كافة رقت بديعة لأمها وشعرت بالشفقة نحوها، واستسلمت للنسيان، نسيان المدرسة والراهبات والرفيقات والطفولة الناعمة والحلوى والنوم الهادئ، وقررت البقاء الى جانب والدتها.

تقييد بالحبال!

عاشت بديعة في منزلها في ظل قهر مستمر، إذ لم تكن حالة الصفو التي كانت تعيشها مع أمها تتعدى اللحظات، فسرعان ما كان يسيطر على الوالدة الغضب والجنون، فهي تخرج يومياً لتقضي طول اليوم خارج المنزل، في الوقت الذي تكون فيه بديعة حبيسة لا ترى الشارع، كانت تقفل عليها باب المنزل يومياً، حتى ضاقت بديعة بتلك الحياة وهددت أمها بأنها لو خرجت وأغلقت عليها الباب ستخلعه، فما كان من الأم إلا أن انهالت عليها بالضرب والشتم، ولم تكتف بذلك، بل قيّدتها بالحبال وأغلقت الباب ورحلت تاركة الصغيرة تعاني الجوع والبرد وقسوة القيد. ظلت بديعة تصرخ وتستغيث ساعات طويلة، حتى سمعها الجيران، فهرعوا إلى بيتها وحطموا الباب وفكوا وثاق الصغيرة، وجاءوا لها بالطعام، وفي محاولة للنسيان راحت تلعب مع الصغار كحيلة لمواجهة ما لاقته من عنف.

راحت بديعة تقفز وتغني مع أبناء جيرانها في غرفتها المظلمة، وفيما هي منهمكة في اللعب وجدت على الأرض صندوقا ممتلئاً بالنقود، فتذكرت العفاريت وحكاياتهم، إذ لا بد من أن يكون الصندوق هدية منهم، راحت بديعة تكافئ أبناء الجيران وتهديهم الحلوى، وعندما حضرت الأم سألت بديعة عمن فك وثاقها مبديةً غضبها، ثم أخذتها وعادت بها إلى المنزل، فوجدته غارقاً في الفوضى، وشاهدت الصندوق على الأرض، صرخت في وجه بديعة، التي راحت ببراءة الأطفال تبلغها أن العفاريت «أهدونا كنزاً»، فما كان من الأم إلا أن انقضت على ابنتها ككل مرة وضربتها بشدة قائلة: «متى تأخذك العفاريت من وجهي أيتها اللعينة يا سر تعاستنا جميعاً».

كان الصندوق في خيال بديعة مجرد أسطورة كالتي يتربّى عليها الأطفال في عالمنا العربي، أسطورة ترتبط بالسحر والجان، بينما هو في الحقيقة غير ذلك، لقد كانت بديعة تتساءل يومياً أين تذهب الأم وتغيب هذا الوقت كله، من الصباح الباكر وحتى ظلمة المساء الموحشة، والحقيقة أن الوالدة ظلت لسنتين متواصلتين تخرج في الصباح حاملة بعض البضائع لتبيعها في الطرقات وعلى أبواب المنازل، لجمع مبلغ يمكّنها من العودة إلى الشام، وتعرّضت في سبيل ذلك لمضايقات شديدة لأنها لم تحمل إجازة مثل البائعين المتجوّلين كما هو متبع في تلك البلاد.

العودة إلى الشام

وقفت الأم أمام ابنتها تبكي متحسّرة على تعب سنتين من العمل تحت وطأة التهديد، لقد كان في الصندوق جهد هذه الأيام من دون أن تدري بديعة الحقيقة، لكنها تأثرت كثيراً وذهلت بعدما عرفت الحقيقة، وبينما كانتا تتناقشان في انفعال كبير دخل عليهما صاحب البيت يحمل مظروفاً، كان رسالة من خالة بديعة الموجودة في الشام، تخبرهما بأن جدة بديعة رحلت تاركة ثروة وأملاكاً لا بأس بها، وكانت الأم وشقيقتها الوريثتين الوحيدتين، وتضمنت الرسالة دعوة الى الأم للعودة إلى الشام لتتمكن من الحصول على نصيبها من الإرث، وكعادة الأم ثارت ثورتها على الغربة وعلى بديعة، فراحت تلطم خدها وتلعن اليوم الذي أنجبت فيه هذه الطفلة اللعينة التي جلبت لها الخزي والعار.

ما إن عرفت بديعة بخبر العودة إلى الشام، حتى راحت تتذكر الفضيحة والأيام العصيبة التي قضتها هناك، وبات خبر الذهاب إلى الشام شبحاً جديداً يطاردها، وعادت ذكريات تلك الأيام أمامها كشريط سينمائي يلقي بتفاصيله المرعبة أمامها، فتذكرت الحانة والوحش الذي اغتصبها وشقيقيها والجيران... فالشام بالنسبة إليها هي العذاب والفضائح والمرارة والجحيم، ومع ذلك أرادت أمها العودة إلى ذلك الجحيم.

back to top