دق العصافير!

نشر في 17-06-2009
آخر تحديث 17-06-2009 | 00:00
 د. مأمون فندي هل يستطيع الفرد منا أن يكون قادرا على التعبير عن آرائه السرية في العلن وتحمل المواجهة ودفع الثمن، أم أن قدر العربي أن يكون ضمن عقلية القطيع في المجال العام، وفرديا إلى أبعد الحدود في المجال الخاص؟ وإذا كنا كأفراد لا نستطيع أن نكون مستقلين نختلف في العلن كما نختلف في السر، فهل هناك مستقبل للديمقراطية في المنطقة يا ترى؟ أساس الديمقراطية هو التعبير عن رغبات الفرد الحر المستقل الذي لا هو ضمن قبيلة أو طائفة، فرد حر يلتحي أو لا يلتحي، يخلع أو يلبس غطاء للرأس بمطلق الحرية لا بضغط الجماعة والقبيلة والطائفة. سلوك معظمنا في العالم العربي لا يوحي بأننا قادرون على أن نكون أفرادا ونحن في المجال العام أو على خشبة مسرح الأداء الاجتماعي، نصبح أفرادا فقط عندما ننزل من على خشبة المسرح، وقتها نتحدث كبشر لهم مشاعر خاصة يتألمون ككل البشر، أما ونحن في المجال العام، أمام الشاشات أو على خشبة المسرح الاجتماعي، نصبح فرسان القبيلة والأبطال الذين لا يتألمون، مغاوير لا يشق لهم غبار، رغم كل ما تسمعه منهم عن حالة الانكسار التي يعيشونها عندما يتحدثون إليك في السر.

لماذا نحن هكذا؟ لماذا نتقمص على خشبة المسرح الاجتماعي أدوارا لا تشبهنا، ربما باستثناء اعترافات نادرة مثل كتاب جلال أمين الشخصي والذي قيل إن عائلته وبخته عليه، ورواية الخبز الحافي لمحمد شكري، أو كتابات أهداف سويف بالإنكليزية، كل كتاباتنا تتآمر في رسم وهم البطولة لكي نصبح رموزا لشرف القبيلة المتخيلة التي نعرف جميعا أنها وهم.

عندما كنت أدرس أحد الكورسات الجديدة في علم السياسة الذي وضعت له عنوانا ما تحت السياسة، كنت أقدم لطلابي الواقع السياسي في الشرق الأوسط من خلال الرواية، أي كان تصميم الكورس مبنيا على فرضية أن الرواية أو العمل الإبداعي في العالم العربي هما أقرب إلى الواقع مما تنشره الصحف. ففي المجتمعات السلطوية تتبادل الجريدة اليومية والرواية المواقع، فالرواية أو الفن الإبداعي الخيالي هو القادر على التحرر من السلطة ومقاربة الواقع بجرأة متخفيا تحت اسم العمل الفني، أما الصحيفة في مثل هذه المجتمعات فهي خاضعة للسلطة، مهما حاولت أن تبدو عكس ذلك، لذا فهي لا تقترب من الواقع أبدا، هي دائما تجمله وتضعه في الإطار الذي يرضي السلطة. عالم الخيال هو الصحيفة، أما عالم الواقع فهو الرواية. أذكر درست طلابي رواية جمال الغيطاني «الزيني بركات» على أنها أفضل شاهد على العهد الناصري، رغم أن الكاتب تجنب غضب الحكومة حين وضع تاريخ الأحداث في مصر المملوكية، كانت رواية الغيطاني هي الواقع، بينما كانت «أهرام» هيكل هي الرواية والخيال.

عندما كنت شابا وأقرأ بعض قصص يوسف إدريس في الأهرام، أو أعمال نجيب محفوظ أو توفيق الحكيم، كنت دائما ما أقول، ما داعي لصفحة أو صفحتين من القص الخيالى القريب من الواقع، بينما تحلق كل صفحات الجريدة في عالم الخيال؟ كانت الأعمال الإبداعية أقرب إلى الواقع من شطحات وصفحات الجريدة، هذا بالطبع باستثناء صفحة الوفيات، رغم أن الخيال هناك قد يفعل فعله، عندما ترى في النعي أن جد فلان كان نسيب وقريب عائلة النحاس باشا، ولا أدري لماذا النحاس باشا خصوصا. والحقيقة أنني كنت أنظر للصحيفة برمتها على أنها عمل روائي في المقام الأول.

القصة هي أن المتخيل والخيال والعيش في الوهم أصبح عندنا عملا مؤسساتيا، تتبناه صحف ومؤسسات، لم يعد عملا فرديا يمكن معالجته، إن الحالة التي نعيشها تحتاج إلى علاج جماعي لكي نعود سيرتنا الأولى كأفراد نحزن ونفرح وننتصر وننكسر، نتألم ونبكي كما سائر البشر، فعالم القبيلة والقطيع أو السرب هو عالم خانق للبشر. لفت نظري أخيرا، وأنا أتحدث في واحدة من الدول العربية، أن رد أحد المسؤولين على ما قلته هو أنني أغرد خارج السرب. قلت له، السرب أشبه بالقطيع، والإنسان لا يكون إنسانا إذا كان ضمن قطيع... و«لا تزر وازرة وزر أخرى»، هكذا خلقنا، كل مكلف بعمل وكل سير لما خلق له، الأساس هو الفرد لا القطيع. في مقال سابق في هذه الجريدة بعنوان «مش عصفور»، قدمت نقدا للمثل الشائع القائل «عصفور في اليد، خير من عشرة على الشجرة»، قلت يومها إن العصفور هو الذي على الشجرة يغرد حرا طليقا، أما إذا كان في اليد أو في القفص فهو مش عصفور. أنظر حولي في عالمنا العربي وأرى كثيرين ممن يظنون أنهم عصافير فوق الشجرة، لكنهم لا يدرون بأنهم سجناء اليد أو القفص.

فهل آن الأوان لنقتح حوارا حول حرية الاختلاف؟ لعلنا نصبح عصافير، بدلا أن نكون كما يقول المثل العامي أيضا «داقين عصافير»، أي بلهاء بالعامية المصرية. سؤال يحتاج إلى جرأة شديدة حتى نتوصل إلى جواب حقيقي.

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top