مادوف الشيعة


نشر في 06-09-2009
آخر تحديث 06-09-2009 | 00:01
 بشارة شربل يمكن أن يكون صلاح عزالدين القابع قيد التحقيق لدى القضاء في بيروت أخطر من «برنارد مادوف» إذا قورنت نسبياً الأموال التي أهدرها الأخير في نيويورك بحجم ودائع المتعاملين مع نظيره في جنوب لبنان وخسائرهم التي قدرت بأكثر من مليار دولار، لكن المسألة في لبنان أكبر من قضية جشع فردي وسوء إدارة ونقص رقابة، فهي انعكاس لغياب الدولة وقيام مؤسسات موازية وتعميم الاعتقاد بأن القادر في السياسة والسلاح بارع حتماً في عالم المال والأعمال.

إضافة الى الخسارة المباشرة، يتحمل «حزب الله» مسؤولية معنوية، على الأقل، إزاء كل المستثمرين، خصوصاً الصغار منهم الذين تبخرت أموالهم في صناديق عزالدين الاستثمارية أو استثماراته الصناعية والتجارية، فلولا تدثُّر «المحسن الكريم» بغطاء الحزب لما كوّن صورة لدى الناس توحي بالثقة والأمان، ولولا رعاية الحزب له لما اعتقدوا أن وراءه «دولة الحزب» و»دولة الولي الفقيه»، فالدولتان أقنعتا جمهور الشيعة في لبنان بأنهما صنو المنعة والانتصار في الحروب والشدائد، وإذ إن «من يستطيع الأكثر يستطيع الأقل» فإنهما بالتالي عززتا الوهم بحصانتهما وبأنهما لا يمكن أن تتعرضا لهزيمة في مسائل «بسيطة» من نوع التوظيف والاتجار بالمال.

واضح أن «مادوف لبنان» احتمى في بيئة أتاحت له ممارسة نشاط مالي بلا قيود، فلا كان خاضعاً لـ»قانون النقد والتسليف» ولا لرقابة جمعية المصارف ومصرف لبنان، ولا مُعتمداً الإجراءات المالية المتعارف عليها في البنوك أو شركات الاستثمار. فأقام «المرابحة» محل «الفائدة» وامتص سيولة أبناء الطائفة الشيعية التي اكتسبوها بالجهد في إفريقيا والخليج، وأخذ بدربه جزءاً من التعويضات التي دفعت للمواطنين نتيجة «حرب يوليو»، ولم ينجُ من مغامرته وانكشافه في خضم أزمة مالية عالمية عاصفة مستثمرون من دولة قطر تشجعوا حتماً بتعاطف قياداتهم مع «محور الممانعة»، فظنوا أن ما يصح من أدوار منفوخة في تقاطعات السياسة الإقليمية ممكن أن يترجم أرباحاً طائلة في «أسواق مال» الاقتصاد الموازي لدولة مستباحة اسمها لبنان.

ليس عزالدين أول مضارب يخسر أو مراب يقتله الجشع أو رجل أعمال يخاطر في التوظيف، فقبله حصلت منذ الثمانينيات تجارب لمواطنين كثيرين مع متحايلين على القانون أو مغامرين مقامرين أو «أوادم» سيئي الحظ، لكنها لم تكن بحجم «دولتي» ولا استهدفت جهد طائفة ولا تستَّرت بأعمال الخير ولا تغطت بمقاومة، فمثير للاهتمام والاستهجان كيف نشأ هذا المستثمر المُحسن، ومِن أين أتى بكل هذه الأموال، وكيف تُرك له الحبل على الغارب ليتوسع خارج أي قواعد مالية وبلا حسابات مخاطر هي أساس هذا النوع من الأعمال، حتى لو سلمنا جدلاً بأنه كان في غنىً عن قوانين الدولة اللبنانية، وأقوى من أن يسأله قضاء عن مصادر أمواله وأعماله والضرائب التي يدفعها، ومواءمة نشاطه مع التراخيص إذا وجدت في أي حال من الأحوال.

ليست الكارثة المالية التي يمر بها عدد كبير من المواطنين اللبنانيين من جراء فشل عزالدين في الوفاء بالتزاماته مدعاة للشماتة، فمؤسسات يهودية خيرية كبرى ومستثمرون ذوو خبرات وثقوا بالمصرفي مادوف فَسَطا على خمسين مليار دولار وحصدوا الإفلاس والتعاطف الذي لا يصرف في أي مكان، لكن إذا صح ما يتناقله قريبون من «السلطة الشيعية» بأن قضية عزالدين تحاكي بخطورتها «حرب يوليو»، تَبيَّن حجم المسؤولية الملقاة على عاتق هذه السلطة، ما يوجب عليها تعويض الناس وتحمل الأضرار بالتضامن والتكافل مع الجمهورية الإسلامية في إيران التي كانت وراء حالة «الحكم الذاتي» التي فرّخت شركات مال وعقار ذات أهداف سياسية، ويعمل بعضها ليس خارج القوانين فحسب بل أيضاً خارج منطق الوفاق.

قد تتم «لفلفة» فضيحة عزالدين المالية بسبب قدرة حُماته وحرصهم على صورة الطرف العصيّ على النكسات، بيد أن الأخلاق قبل القانون توجب اعتبارها جرس إنذار ودرساً بأنه لا آليات آمنة خارج سلطة الدولة، وأن المال مثل السلاح، يجب ألا يفيض إلا بالحلال.

back to top